دائرة الدين المتفاقم لا تلحق الأذى باقتصاد أميركا، وإنما تضعف أمنها القومي أيضاً، وتحيل العالم إلى مكان أكثر خطراً. ولا يمكن لدولة أن تحافظ على قوتها، أو حتى قدرتها على إظهار تلك القوة، من دون اقتصاد قوي. انطبق هذا تاريخياً على"اسبرطة" و"روما"، وينطبق في الوقت الراهن على الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي تمتلكها أميركا، فإنها لم تمتلك حتى الآن الجسارة الكافية التي تمكنها من اتخاذ الخطوات المطلوبة لاستعادة قوتها، من خلال نمو اقتصادي قوي خلال السنوات المقبلة. الخبر السار أن إدارة أوباما تحاول الآن -على الأقل- طرح الموضوع للمناقشة. ففي الفترة الأخيرة، شكل الرئيس الأميركي مفوضية مالية، لمعالجة مشكلة الديون التي تعانيها الولايات المتحدة. كما استغلت وزيرة الخارجية الأميركية مناسبة الإعلان عن الاستراتيجية الأمنية الجديدة لتربط بينها وبين الدبلوماسية حين قالت في تصريح لها: "يجب على الولايات المتحدة أن تكون قوية في الداخل كي تكون قوية في الخارج". ولكن العبارات اللفظية الحازمة، والمفوضية منزوعة الأسنان، التي يمكن أن يتضح فيما بعد أنها لم تكن سوى أداة لزيادة الضرائب، لن تغير من القلق الناتج عن التنبؤات المخيفة المتعلقة بالاقتصاد الأميركي. والوضع في أوروبا لا يقل سوءاً، حيث تشير التقديرات إلى أن هناك 200 ألف منشأة تجارية وصناعية ستصبح متعثرة مالياً بنهاية هذا العام، كما يقول الخبراء إن التوازن بين المشروعات القادرة على توليد المداخيل، وبين المتلقين لبرامج الاستحقاقات "برامج الإعانات"، قد بدا في الاختلال في اقتصاديات "مجموعة السبعة". وعبء برامج الاستحقاقات، وعناء توفير المخصصات اللازمة لسداد الديون وغيرها من الالتزامات، تزداد ثقلًا بالنسبة للاقتصادات القوية كافة في غرب أوروبا. ومع انخفاض معدلات المواليد في تلك الدول، فإن سكانها الذين يزدادون شيخوخة، سيشكلون عبئاً على نظام الرفاهية في العقد القادم. والعبثية المتمثلة في لجوء دولة مثقلة بالديون مثل اليونان إلى دول أخرى "أقل مديونية" من أجل إنقاذها تمثل نذيراً بالأعباء التي سترزح تحتها مجمل الاقتصادات الأوروبية. وضعف الاقتصاد الأميركي، يمكن أن تترتب عليه تداعيات شديدة الأثر على أوروبا. فمن المعروف أن اتفاقية حلف شمال الأطلسي، التي تم التوقيع عليها بعد الحرب العالمية الثانية، كانت مبنية على التزام من الولايات المتحدة بحماية دول القارة، التي كانت قد خرجت تواً من صراع هائل اختتمت به سلسلة من الصراعات التي استمرت لما يقرب من 300 عام. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبانهيار الاتحاد السوفييتي، ازداد اعتماد دول أوروبا على الولايات المتحدة من أجل حمايتها، نظراً لأن العديد من تلك الدول - كأثر مباشر من آثار انتهاء تلك الحرب- خفضت من إنفاقها العسكري من أجل توفير الأموال اللازمة، لتمويل برامج الاستحقاقات السابق الإشارة إليها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت قادرة مادياً على توفير الحماية الدفاع لأوروبا، فإن ذلك اصطدم برؤية بعض الدول الأوروبية، التي كانت ترى في الخطط الأميركية لحماية القارة نوعاً من التمدد وسعياً منها لترسيخ مكانتها كقوة عظمى. وفي السنوات الأخيرة وعندما بدأ الاقتصاد الأميركي، يفقد قوته، وتفقد الولايات المتحدة قدرتها أيضاً على توفير تلك الالتزامات، فإن الدول الأوروبية التي كانت تسخط على مكانة أميركا كقوة كبرى عظمى بدأت تعض أصابع الندم، وهي ترى أن رغبتها في رؤية أميركا وقد باتت أضعف، تتحقق بالفعل على أرض الواقع. ليس هذا فحسب، بل إن بعض الدول الأوروبية تتهامس سراً الآن حول ما إذا ما كان بمقدورها المراهنة على الحماية الأميركية لأمنها مستقبلًا. وهذه الهمسات تجد مجالًا للتعبير في محادثات "الناتو"، التي تعقد وراء أبواب مغلقة لمناقشة تطوير مفهوم أمني استراتيجي جديد. والتوترات داخل الحلف عميقة وتاريخية، أي أنها ليست وليدة اليوم، ولكنها تأتي في الوقت الراهن في إطار توترات لا تقل من حيث درجة تاريخيتها، تنال من "اليورو"، وقدرة الاتحاد الأوروبي ذاته على الاستمرار في الحياة. وجاءت الخطوات الأميركية المثيرة للدهشة في أوروبا في العامين الأخيرين، خصوصاً إلغاء الدفاعات الصاروخية في شرق أوروبا، ثم التفاوض بين الرئيسين الأميركي والروسي على تخفيض الأسلحة النووية "على الرغم من حقيقة أن ذلك التخفيض، في عالم يشهد بروز قوى نووية جديدة ويشهد محاولات من جانب عدد من الدول التي لا يمكن الوثوق بنواياها لحيازة السلاح النووي ربما يؤدي لزيادة الانتشار لا الحد منه"، لتزيد من قلق دول القارة وتجعل من موضوع الأمن المستقبلي موضوعاً ملحاً بالنسبة لها جميعاً. التقدم الاقتصادي والأمن القومي خيطان في حبل واحد يربط أميركا وأوروبا معاً. واهتراء أي خيط من هذين الخيطين على أي جانب من جانبي الأطلسي، قد يضعف الخيط كله. والحل بالنسبة لأميركا وأوروبا، والعلاج الملائم للهواجس الأمنية لكل منهما سهل وصعب في وقت واحد ويتمثل في عبارة واحدة: النمو الاقتصادي القوي. فمثل هذا النمو لا يسترد عافية سوق الوظائف، والميزانيات المالية، وإنما يعيد إحياء البنية الأمنية لأميركا وأوروبا، ويمنح قوة رافعة جديدة للدبلوماسية في الوقت ذاته. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن تحقيق مثل هذا النمو القوي ليس بالأمر الممكن دون القيام أولًا بتخفيض الضرائب، والتخفيف من أعباء الديون، وتوفير الأموال الكافية لبرامج الاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية. يحدثنا التاريخ أن مثل هذه الخطوات المؤلمة سياسياً عادة ما تكون مثمرة اقتصادياً. المشكلة أنه لا يوجد لدى المعنيين ما يلزم من جسارة للإقدام على مثل هذه الخطوات الجريئة. ولكن علينا أن ندرك أنه ليس هناك من سبيل آخر للخروج من دائرة الديون التي تحكم علينا خناقها سوى ذلك. ------ والتر أندريوسيزين أستاذ إدارة الأعمال الدولية بجامعة ساوث فلوريدا ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"