كثيرون سقطوا في سباق الحياة الطويل، لكنه بقي واقفاً كنخلة نبيلة، يوزع الأخلاق بيمناه والمعرفة بيسراه، محافظاً على العهد والوعد، الذي قطعه على نفسه في صمت، حين قرأ في عيون تلاميذه احتراماً له، وتعويلا عليه، وأملا فيه، فلم يخيب الظنون، ولم يكسر الخواطر، ولم يخن، ولم يسترخص نفسه ولا ما في رأسه أبداً، وسار في طريقه كما ينبغي للعالِم أن يمضي، وصان كرامته كما يجب على الإنسان السوي أن يفعل، وراهن على أن الزمن يعمل لصالحه، فجاءه ما يريد طيعاً راكعاً تحت قدميه، وامتثل له ما يتمناه، وسمعه الجميع أو شعروا به وهو يتمتم في صبر جميل: "الغنى في الاستغناء". كانت شمس الصبح تهدي ألقها الباهر إلى نافذة القاعة رقم (5 ) في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية -جامعة القاهرة، حين رأيته للمرة الأولى، فتوحد أمامي في لحظة نادرة من حياتي نور السماء مع نور المعرفة، على قسمات رجل فارق الأربعين من عمره بشهور، ممشوق لا إعوجاج فيه، يرفع هامته في عزة، لكن جبينه يتطامن في تواضع العلماء الثقات، حين يستعد لشرح درس، أو الإجابة على تساؤل من تلاميذ، يلحون في طلب المزيد. ومع تقدم الأسابيع أدركنا جميعاً في فرح أن استقامته لا تقف عند جسده النحيل فحسب، بل تسكن أخلاقه الرفيعة، وعلمه الغزير. هرولنا خلفه فراح يقربنا منه كأصدقاء، ويأخذ بأيدينا إلى السعي الدائب وراء الحقيقة، وخلف كل ما ينفع الناس، ويحسن شروط الحياة. وظل دوماً أكثر ما يبهرنا في أستاذنا الدكتور أحمد يوسف أحمد، لغته الصافية، وعقله المرتب، وحججه التي تتهادى في إحكام، ووطنيته التي لا يشوبها شيء، ولا يجرحها هوى، ولا تنقص منها منفعة ذاتية، وقدرته المذهلة على أن يختلف دون أن يقسو، ويبتعد دون أن يظلم، ويعذر الناس على جهلهم تارة، وضعفهم طوراً. وظل أعلى ما يعجبنا فيه مكنته على ألا يفقد في تعامله الدائم مع ألوان شتى من البشر ثقته بنفسه، وإيمانه بما يقول وما يفعل، معنيّاً طيلة الوقت أن يوطن نفسه، فإن أحسن زملاؤه وحتى أساتذته فرح ورافقهم، وإن أساءوا حزن وفارقهم، بلا إدعاء ولا افتخار ولا انفجار، بل في صبر وروية، مقدماً النصيحة إن استنصحوه، والمعلومة إن استعلموه، والعون إن طلبوه. دخل إلى قاعة الدرس ليعطينا محاضرات في "العلاقات الدولية" فوجدناه أيضاً يعلمنا دروساً موازية في "العلاقات الإنسانية"، ليس بكلام مكرور عن القيم النبيلة والمثل العليا والأخلاق السامية، بل بأفعال راسخة نابعة من كل هذا، فهمنا منها وألفنا فيها وأدركنا معها هذه الأمور جلية ناصعة، بعيداً عن ثرثرات صدعنا بها أساتذة آخرون، شرحوا لنا معنى الحرية ونراهم الآن يناصرون الاستبداد، ومدحوا لنا النزاهة ونعرف حاليّاً أنهم يبررون الفساد، ودافعوا عن التقدم وندرك في الوقت الراهن أن أفعالهم تكرس التخلف. بعد محاضرته الأولى سألنا عنه، فقيل لنا: كانت خدماته معارة لجامعة صنعاء، وعمل رئيساً لقسم العلوم السياسية بها، وأتذكر وقتها ما قاله أحد المعيدين: "أغلب الأساتذة يفضلون الدول النفطية لكن الدكتور أحمد يوسف اختار اليمن". وحين رافقنا زملاء يمنيون في مرحلة الدراسات العليا، عرفنا منهم أن الرجل ترك هناك علامة، وخلف وراءه مريدين كثراً، وكان خير سفير للأكاديمية المصرية العريقة. وبعد عدة محاضرات سألنا عن كتبه وتابعنا تراكمها وجمعناها: "الصراعات العربية- العربية" و"الدور المصري في اليمن" و"السياسات الخارجية للدول العربية" و"الثروة النفطية وتأثيرها على العلاقات العربية- العربية" و"دراسة مقارنة ما بين حركات التحرير الفلسطينية والأفريقية". وبعد عدة سنين سألنا عن جهده، أو عن الأفعال التي ترادف الأقوال، والحركة التي ترافق الخطاب، والتطبيق الذي يتبع التنظير، فوقفنا على دوره الكبير في تحمل مسؤولية إدارة مؤسسة أكاديمية عربية رفيعة المستوى، هي "معهد البحوث والدراسات العربية" التابع لجامعة الدول العربية. فيكفي أن تطالع عيناك قائمة الأساتذة الذين يدرسون التخصصات كافة، لتدرك أن الدكتور أحمد يوسف اختار الأفضل في مصر قاطبة، ويتقدم بكل ثقة ليملأ الكرسي الذي جلس عليه قبله طه حسين وساطع الحصري وشفيق غربال ومحمد أحمد خلف الله. وهذا الموقع هو الأنسب بالنسبة لرجل وهب حياته في الدفاع عن "العروبة" باقتناع تام، وإيمان كامل، وليس بمحض تعصب لعِرق أو بقعة جغرافية، إنما من منطلق التأكد من أن مصالح الناس في المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي ومن جبال أطلس إلى جبال طوروس تقتضي التقارب، إن لم يكن في صيغة "توحد" فعلى الأقل في شكل من التنسيق والتعاون البناء في المجالات كافة. وعلى رغم أن الدكتور أحمد يوسف قد كشف عن صراعات في بنية النظام الإقليمي العربي، إلا أنه لم يفقد الثقة في أن تنتهي هذه الصراعات لأنها بنت الاستبداد، فإن تمكنت الشعوب العربية من رقبة القرار، فإن إرادتها ستهرول إلى التعاون، وعزيمتها لن تكف عن طلب المزيد منه. ذهبت إلى المعهد ذات يوم فوجدت قراراً معلقاً على الحائط يقضي بفصل أحد الطلاب، فابتسمت وقلت لإحدى الموظفات: "أيمكن أن يهون أحد على قلب رجل رحيم مثل الدكتور أحمد يوسف؟ فضحكت وقالت: "إلا في الحق، فقد ضُبط الطالب وهو يغش أثناء الامتحان.. الدكتور لا يتهاون في كل ما يمس الأخلاق ويضر العلم". وسمعت أحد الساسة ذات مرة يقول: "حاولوا ضم الدكتور أحمد يوسف إلى أمانة السياسات بالحزب الوطني في أول أيامها.. طلبوه فجاء وحضر اجتماعاً واحداً ثم مضى صامتاً، ولم يأتِ، فهاتفوه يستفسرون عن غيابه، فاعتذر لهم"، فضحكت وقلت: "ولم يتحملوا رأيه المستقيم سوى دورة واحدة في عضوية المجلس القومي لحقوق الإنسان". وسألت الدكتور أحمد عن الواقعتين، فابتسم، وسألني عن أحوالي. هكذا يتخذ الرجل مواقفه المشهودة دون ضجيج، ولا ينسى وسط انشغالاته وهمومه الذاتية والوطنية أن يحدب على كل من حوله، بأدب جم ودون تكلف أو انتظار شكر من أحد، لذا قصدناه أيام الصبا ليستمع إلى شكوانا العلمية والعاطفية، وتركنا الجامعة تباعاً وقد حفر في أعماق كل واحد منا علامات لا يبددها الزمن، ولا تبليها الأيام.