"كيف تنوي تركيا استخدام نتائج وتداعيات الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية الذي كان متوجهاً إلى غزة؟ الجواب هو تموقع تركيا كقوة صاعدة في المنطقة واستغلال التقدير الكبير الذي تحظى به والذي يصل أحياناً إلى حد التبجيل في الشارع العربي لصالحها. كما أن تركيا في ظل السياق الحالي لم تعد حصان طروادة الذي يخدم الغرب، بل غدت مناصر الفلسطينيين ومدافعاً عن القضية التي فشل القادة العرب في النهوض بها. هذا باختصار الدور الجديد الذي ينتظر تركيا في الشرق الأوسط". كانت تلك كلمات الصحفي "برونوين مادوكس" في صحيفة "التايمز" اللندنية التي يبدو أنها فعلا التقطت الجزء الأكبر من السياسة التركية في هذه المرحلة وعبرت عنها على نحو صحيح. فمعروف أن الفلسطينيين يتعاملون بنوع من الحذر مع الدعم الإيراني لقضيتهم، لما يحمله من شبهات بشأن تطلعات إيران الإقليمية القديمة في المنطقة وانزعاج العرب من اتساع نفوذها، فضلا عن المشاكل السياسية الداخلية لإيران... لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لتركيا. فالتوتر المتزايد في العلاقة مع إسرائيل، والانعطاف المتصاعد بعيداً عن الغرب، يمنحان أنقرة فرصة مهمة كي تعكس قوتها في المنطقة وتستفيد من موقعها الجديد وعلاقاتها المتميزة مع محيطها حتى لو اضطرت إلى مراجعة علاقاتها الاستراتيجية والطويلة مع إسرائيل، وتغيير بعض الثوابت في سياستها الخارجية نحو مزيد من الانفتاح على عمقها العربي. وفي المقابل يتعين على السياسيين الإسرائيليين محاسبة أنفسهم على أخطائهم الكثيرة وعلى الغطرسة التي أبدوها في التعامل مع تركيا خلال الفترة الأخيرة، وذلك رغم تاريخ العلاقات القديم بين الجانبين والذي يرجع إلى السنوات الأولى لقيام دولة إسرائيل. فقد كانت تركيا أول دولة مسلمة تعترف بالدولة العبرية في عام 1949، كما أنه، وفي السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، استضافت اسطنبول العديد من السياسيين اليهود الذين سيصبحون لاحقاً شخصيات عامة في دولة إسرائيل، مثل رئيسها الأول "ديفيد بن جوريون" الذي درس في تركيا، هذا ناهيك عن التعاون العسكري المستمر بين الدولتين والذي استفادت منه إسرائيل لما وفره لطياريها من رقعة شاسعة للتدريب، فضلا عن استغلال الموانئ التركية لإرساء الغواصات الإسرائيلية التي بنتها ألمانيا. لكن أسباب التوتر بين الجانبين توالت بعد الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في عام 2008 والخسائر الكبيرة في الأرواح التي لحقت بالفلسطينيين، فضلا عن الدمار الكبير الذي حل بالقطاع وما أعقبه من حصار خانق مازال قائماً حتى اليوم، وبعدها جاء الانسحاب الشهير لرئيس الحكومة التركي، أردوجان، من جلسة جمعته بالرئيس الإسرائيلي، بيريز، خلال منتدى دافوس، واصفاً بيريز "بالكذاب". ولم تنتظر إسرائيل طويلا فردت بإهانة مجانية وغير مبررة للسفير التركي لديها مباشرة على شاشة التلفزيون، وأخيراً كانت النقطة التي أفاضت الكأس بعدما أقدمت إسرائيل على قتل مواطنين أتراك على متن السفينة مرمرة المحملة بالمساعدات إلى غزة، لتتلطخ العلاقات المتوترة بالدم ويكسب الأتراك شهداء في القضية الفلسطينية. وبالطبع جاء رد فعل الشارع التركي غاضباً، مما اضطر السلطات إلى تشديد الحراسة على البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في تركيا. ولم يقتصر الغضب على الرأي العام التركي، بل انعكس على أعلى المستويات الرسمية، حيث صرح وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أغلو، في واشنطن قائلا: "من الناحية النفسية يشبه الهجوم على السفينة التركية هجمات 11 سبتمبر على أميركا، لذا نتوقع تعاطفاً كاملا معنا، والأمر هنا لا يتعلق بالاختيار بين تركيا وإسرائيل، بل هو اختيار بين الصحيح والخطأ، بين الشرعي وغير الشرعي". لكن حتى قبل الهجوم على أسطول الحرية كانت تركيا قد شرعت في التقارب مع إيران وبدأت تجري مشاورات مع طهران حول قضايا تتعلق بالأمن في المنطقة. ففي شهر مايو الماضي عقد أردوغان مباحثات في إيران لتعزيز التعاون الذي تطور بين البلدين إلى تنسيق المساعدات لصالح غزة وكسر الحصار عليها بمشاركة فعالة من قبل الهلال الأحمر الإيراني. ولعل ما يثير القلق في هذا الصدد عرض الحرس الثوري في إيران توفير الحماية للسفن المتوجهة إلى غزة، ما ينذر بتدهور الوضع الأمني في حال قررت إسرائيل التدخل العنيف. والنتيجة التي لا تشك فيها إسرائيل هي التحول الظاهر والملموس في المزاج التركي، والذي تجلى بشكل واضح في تعليق أنقرة لبرامج التعاون في مجال المياه والطاقة مع إسرائيل، في الوقت الذي تتحسن فيه علاقاتها مع سوريا، كما أن العالم العربي بات متأكداً من الدور الذي تريد تركيا لعبه في المنطقة وإصرارها على كسر الحصار على غزة كمدخل لتكريس هذا الدور وتعزيز مكانتها في الإقليم. وبفضل هذا الإصرار التركي ورغبة الدول الأوروبية في احتواء التوتر الناشئ في المنطقة، يعمل وزير الخارجية البريطاني، ويليام هيج، في ملف الحصار على غزة بعدما دعا إلى رفعه في مناسبة سابقة. وفي نفس الإطار اقترحت فرنسا فك الحصار على أن يتولى الاتحاد الأوروبي تفتيش السفن المتجهة إلى غزة للتحقق من خلوها من الأسلحة. هذا بالإضافة إلى دعوة كل من باريس ولندن لإجراء تحقيق دولي في حادثة أسطول الحرية لفهم ما جرى وتحديد المسؤوليات. لذا أعتقد أن الوقت قد حان كي تغير إسرائيل سياستها اتجاه غزة بعدما تبين أن أسلوبها الحالي جاء بنتائج عكسية، فمشكلة المتنمر الذي يستعرض قوته في الحي أن ضحاياه الذين يعانون من تصرفاته أحياناً يتحالفون وينقلبون ضده.