الأمم الحية هي تلك التي لا تقف في مكانها جامدة متفرجة، وإنما تتحرك وتتفاعل مع الأحداث، وتضع لنفسها إستراتيجيات قصيرة المدى وأخرى متوسطة وبعيدة، بل هي التي تعيد حساباتها وخياراتها من وقت إلى آخر طبقاً لمقتضيات الحال وتبدل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، حتى وإنْ اضطرت إلى إعادة صياغة إستراتيجياتها بالكامل. وإذا كان هذا الكلام ينطبق على أمم حية كثيرة، فإن أبرزها بلا شك هي الصين، التي تراقب جيداً، وتستخلص الدروس بدقة، وتغير خياراتها، وتعيد رسم سياساتها الداخلية والخارجية من وقت إلى آخر، كي تتلاءم مع أوضاع عالم يتغير بسرعة صاروخية في كل ميدان. حدث ذلك في السبعينات والثمانينات بعد الانفتاح على الولايات المتحدة والغرب، وحدث لاحقاً في التسعينيات بعيد سقوط الاتحاد السوفييتي، ويحدث اليوم مجدداً في ظل بروز قوى عملاقة منافسة تتقدمها الهند واليابان والاتحاد الأوروبي، وربما روسيا. على أنه رغم كل ما بلغته الصين من تقدم علمي وقوة اقتصادية وشأن عسكري في العقود الأخيرة، فإنها إلى اليوم لم تحدد لنفسها وصفاً دقيقاً. بمعنى هل هي دولة نامية أم متقدمة؟، قطب عالمي أم قطب إقليمي؟ بلد صناعي أم زراعي؟ قوة عالمية أم قوة شبه عالمية؟ فالقيادة الصينية المعروفة بالذكاء والحذر - شأنها في ذلك شأن الصينيين عموما - تتردد مثلًا في إضفاء صفة الدولة العظمى على بلادها مؤكدة "أن الولايات المتحدة ستبقى وحدها - رغم كل أزماتها الحالية - القوة الأعظم في المدى المنظور" ومكيفة سياساتها الخارجية وفق هذه المعادلة. وبالمثل فإن قادة بكين لا يعتبرون الصين - رغم صعودها الاقتصادي المضطرد المعروف - قوة إقليمية عظمى في ظل وجود دول في المنطقة لا تقل أهمية وقوة وصعوداً مثل الهند واليابان. أما إذا أتينا إلى صفة "النامية" التي ظل "ماو تسي تونج" وخلفاؤه متمسكين بإسباغها على بلادهم لحقبة طويلة بهدف التقرب من الدول المتخلفة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ناهيك عن هدف تخويف هذه الدول من الخصم الأيديولوجي السوفييتي، فإن صين اليوم تحت قيادة "هو جينتاو" لا تزال متمسكة بهذه الصفة، وإنْ لأهداف أخرى مثل تسهيل عملية تمددها في القارة السوداء للاستحواذ على مصادر الطاقة ومكامن التعدين دون حساسيات. والحقيقة - في رأي الكثيرين من محللي ومتابعي الشؤون الصينية - أن الصين، بغض النظر عما يقوله قادتها في خطبهم وتصريحاتهم ومؤتمراتهم الحزبية، هي دولة عملاقة تجمع كل مؤهلات البروز كقوة عظمى يوما ما. ونقول يوماً ما لأنه لا يمكن التكهن بدقة حول الزمن الذي ستحتاجه القيادة الصينية لمعالجة المشاكل الداخلية من تلك التي لا تليق بدولة تتبع اسمها كلمة "عظمى"، ونعني بتلك المشاكل قضايا مثل "الانفتاح السياسي"، و"الحريات المدنية"، و"النظام المصرفي المتين"، و"الوحدة الوطنية الراسخة"، و"النمو المتوازن ما بين الحواضر والمناطق النائية"، و"الحد من الفساد والتسيب". وبطبيعة الحال، فإن الذين حددوا خمسين عاماً، كفترة زمنية قصوى تعالج الصين فيها القضايا المذكورة، سرعان ما تراجعوا عن جملتهم الشهيرة "سوف يشهد العالم بروز الصين كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة بحلول عام 2050 ". ربما يحتاج ما ذكرناه في الأسطر السابقة إلى شيء من التفصيل. صحيح أن الصين نجحت في أن تتحول منذ منتصف العقد الجاري إلى ثاني أكبر قوة جاذبة للاستثمارات الأجنبية (بعد الولايات المتحدة)، كما نجحت في فتح أسواق العالم أمام صادراتها المتنوعة، وفي تحقيق معدلات نمو تراوحت ما بين 9 – 10 بالمئة خلال العقدين الماضيين (أي أكثر بكثير من معدلات سائر الاقتصاديات الكبرى في العالم)، فأصبحت بالتالي رابع أكبر دولة في المبادلات التجارية، وثاني أكبر مستورد للنفط، وثالث أكبر سوق للمركبات على مستوى العالم، وثاني مالك لأضخم الاحتياطيات النقدية الأجنبية إلى جانب اليابان. وصحيح أن الصين صارت تنتج من الصلب ما يفوق إنتاج دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بعشرين مرة. وصحيح أنه من بين كل عشرة أكياس من الإسمنت ينتج في العالم تستهلك الصين منها أربعة أكياس في ورشة الإعمار والإنشاءات التي لا تهدأ. إلا أن الصحيح هو أن كل هذه الإنجازات الباهرة أفضت إلى ظواهر سلبية، بمعنى أنها وضعت الصين أمام تحديات جديدة. فالتوسع في التصنيع كان على حساب الزراعة، الأمر الذي سيجعل البلاد عاجلًا أم آجلا مضطرة لاستيراد الطعام، خصوصاً في ظل عدد السكان الضخم، وبقاء معدلات المواليد السنوية على حالها. كما أن التوسع في التصنيع، معطوفاً على تحسن الدخول، وبالتالي التوسع في استخدام الطاقة أدى إلى حدوث مشاكل بيئية خطيرة وغير مسبوقة. وتحسن الأحوال المعيشية كنتيجة لزيادة معدلات النمو في مختلف القطاعات حوّل البلاد منذ عام 1993 من دولة مكتفية ذاتيا في الطاقة إلى دولة مستوردة لها، بل دولة يزداد فيها الطلب على الطاقة باضطراد رهيب، وهو ما دفع القيادة السياسية إلى تخصيص جزء معتبر من مدخرات البلاد وميزانيتها العامة للإنفاق على اكتشاف مكامن جديدة للنفط والغاز في داخل الصين وخارجها. والاستعجال في اكتساح أسواق العالم بالمنتج الصناعي الصيني، جعل عبارة "صنع في الصين" مرادفة للبضائع قليلة الجودة، بل المتسببة في الحوادث المميتة، خصوصاً في ظل صعوبة تطبيق لوائح الضبط والربط بدقة بسبب ترامي أطراف البلاد وانتشار الفساد بين المسؤولين. والتباطؤ في تدشين إصلاحات سياسية - حتى في حدودها الدنيا- وضع القيادة الصينية في مرمى الانتقادات المريرة من الدول الكبرى، والمنظمات الحقوقية الدولية، علاوة على أنها سهلت من تعاطف العالم مع خصومها في الداخل كشعبي التيبت وتركستان الشرقية. وطريقة إدارة بكين المتعجرفة لإقليم "هونج كونج" الذي عاد إلى السيادة الصينية في عام 1997 وفق صيغة "نظامان وبلد واحد"، لم تشجع التايوانيين على الانضمام إلى البر الصيني، فظلت "تايبيه" شوكة في خاصرة بكين، بل ظلت ضمن الأسباب التي تدفع الأخيرة للإنفاق الهائل على التسلح والأبحاث العسكرية (وصل هذا الإنفاق إلى 30 بليون دولار في عام 2005 مثلا).