يتعرض الملايين من البشر كل عام للمرض الشديد نتيجة استهلاكهم لأطعمة أو مشروبات ملوثة، ويلقى الكثيرون منهم حتفهم من جراء الجراثيم أو الميكروبات أو الملوثات الأخرى التي تدخل لأجسامهم مع طعامهم، وهو ما تظهره حقيقة أن أمراض الإسهال الناتجة عن التلوث الغذائي تتسبب في وفاة مليون ونصف مليون طفل سنويّاً، بالإضافة إلى عدد كبير من البالغين. وهذا الوباء الخفي من التسمم الغذائي يشهد تزايداً مطرداً عاماً بعد عام، كنتيجة لعولمة صناعة الغذاء، وامتداد السلسلة الغذائية عبر دول وقارات مختلفة، من مكان إنتاج الغذاء، وخلال نقله وتوزيعه، وحتى مكان استهلاكه، وهي السلسلة التي تنتقل أيضاً من خلالها الجراثيم المسببة للتسمم الغذائي بين أصقاع الأرض المختلفة. وتلعب ظاهرة التمديُن -هجر الريف للعيش في المدينة- هي الأخرى دوراً في انتشار التسمم الغذائي، نتيجة كون سكان المدن يعتمدون في جزء من طعامهم اليومي على أطعمة جهزت وأعدت خارج منازلهم، ولم تطبق عليها معايير السلامة الغذائية بشكل جيد، بما في ذلك الأطعمة الطازجة والأسماك واللحوم والدواجن. ومع هذين العاملين؛ تمدين المجتمعات البشرية، وعولمة صناعة وتجارة المواد الغذائية، أصبح من الممكن وقوع حوادث دولية من التسمم الغذائي، حيث يتم إنتاج الغذاء المسؤول عنها في بلد، بينما يكون الضحايا في بلد آخر، على أساس أن غالبية دول العالم تقريباً، تعتمد على استيراد أنواع ومكونات غذائية، لا تتوفر لسكانها ضمن المنتجات المحلية. وتلعب طبيعة غذاء أفراد الجنس البشري أيضاً دوراً مهمّاً في نوعية الأمراض التي يمكن أن تنتقل إليه عن طريق الغذاء، كون الإنسان من الكائنات الحية التي تقتات على المواد الحيوانية والنباتية معاً، حيث يصنف الإنسان ضمن آكلي ثمار النباتات والأعشاب وآكلي اللحوم في الوقت نفسه، وهي الصفة التي يشاركه فيها أقل من عشرين جنساً آخر من الكائنات الحية، وهذا يشكل ميزة في القدرة على البقاء بسبب ما تمنحه تلك الصفة من تنوع في مصادر الغذاء. فمنذ أن ظهر الإنسان على الأرض اعتمد في تلبية احتياجاته الغذائية على صيد والتهام الحيوانات، وعلى جمع النباتات والخضراوات والفواكه. ولكن هذه المرونة الغذائية، جعلته أيضاً عرضة لحزمة واسعة من الأمراض، تنوعت بمقدار تنوع مصادر الغذاء الذي يقتات عليه بشكل يومي. وهو ما يتضح من حقيقة أن الكتب والمراجع الطبية، في تصنيفها للأمراض المعدية التي يمكن أن تصيب الإنسان، تفرد باباً كاملا لما يعرف بالأمراض الحيوانية- الإنسانية، أو أمراض البشر ذات الأصل الحيواني، وهي الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان من الحيوانات، سواء البري منها أو المستأنس، ومن خلال استخدام الحيوان المريض كمصدر غذائي، أو أثناء الاتصال المباشر أو غير المباشر به. وبالفعل تظهر الدراسات والأبحاث العلمية أن 75 في المئة من الأمراض المعدية، الجديدة وغير المعروفة سابقاً، التي ظهرت بين أفراد الجنس البشري للمرة الأولى خلال العقد الماضي، كان سببها بكتيريا أو فيروسات، أو ميكروبات، بدأت جميعها في الحيوانات ومنتجاتها الغذائية، ثم انتقلت إلى الإنسان، وخصوصاً من يتعاملون بشكل يومي ومباشر مع الحيوانات الداجنة أو البرية المصابة، سواء في الأسواق العامة أو المذابح. ولعل وباء فيروس إنفلونزا الطيور الذي لا زال حيّاً في الذاكرة، هو أفضل مثال على هذه الحزمة من الأمراض. وإن كان فيروس إنفلونزا الطيور ينتقل فقط أثناء الاتصال المباشر أو غير المباشر بالطيور المريضة، ولا يسبب عدوى إذا ما تم الطهي بشكل سليم، عند درجات حرارة مرتفعة ولمدة كافية. ويصنف التسمم الغذائي ضمن أنواع النزلات المعوية، وينتج إما بسبب تناول غذاء أو شراب يحتوي على الجراثيم مثل البكتيريا والفيروسات أو الطفيليات والديدان، أو نتيجة احتواء الطعام على نوع من أنواع السموم الطبيعة أو الكيميائية. وتظهر الأعراض الأولية في حالات التسمم الغذائي على شكل حمى ورعشة، مع قيْء وإسهال، وآلام في العضلات، وإحساس عام بالإرهاق الشديد. ويمكن تقسيم التسمم الغذائي إلى نوعين رئيسيين؛ نوع ينتج عن وجود ميكروب أو جرثومة في الغذاء، ونوع آخر يقع بسبب وجود سموم في الغذاء، سواء كانت هذه السموم كيميائية اصطناعية، أو سموماً طبيعية ناتجة عن مخلفات العمليات الحيوية للجراثيم التي تعيش داخل الطعام. وهذا يعني أن النوع الأول هو في حقيقته شكل من العدوى يتم عن طريق تناول غذاء ملوث بالميكروب أو الفيروس أو الطفيلي، لتغزو على إثرها تلك الجراثيم الجسم عن طريق الجهاز الهضمي، وتسبب حزمة متنوعة من الأمراض. أما النوع الثاني، فهو ببساطة نوع من التسمم، تظهر فيه الأعراض والعلامات بسبب دخول كمية من السم إلى الجسم، فتسبب اضطراب أعضائه وأجهزته الحيوية. وهذا السم، إما أن يكون مادة كيميائية لوثت الغذاء بشكل مباشر، أو أن يكون ناتجاً من ميكروبات وجراثيم كانت تعيش على الغذاء الفاسد، ثم أنتجت سموماً كجزء من مخلفاتها الأيضية. وفي هذه الحالة الأخيرة، لا يشترط وجود الجراثيم في حد ذاتها في الغذاء وقت تناوله، بل يكفي وجود سمومها فقط. ولذا يعتبر العلماء والأطباء أن استخدام مصطلح التسمم الغذائي للتعبير عن جميع هذه الحالات هو استخدام خاطئ، ويفضلون استخدام مصطلح "الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء" للتعبير عن الحالات التي تنتج عن حدوث عدوى بميكروب، وأيضاً الحالات التي تنتج عن مخلفات وسموم الجراثيم. د. أكمل عبد الحكيم