والناس مشغولة بقوافل الحرية البحرية، وبالملف النووي الإيراني، وعندما كانت الأنظار مشدودة لما يمكن أن يقع بين شمال وجنوب كوريا، وأثناء انشغال العرب بمباحثات السلام المتعثرة بينهم وبين عدوهم الإسرائيلي، وبين عرب شمال أفريقيا، وبين عرب العراق والشام، وبين الفلسطينيين والفلسطينيين، وبينما غموض الحدود المشتركة بين كثير من الدول العربية يزيد من توتر العلاقات أو برودها، ووسط اللغط العربي العقيم حول حقوق الإنسان وتفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني وقضايا التوريث السياسي والانتخابات المتشابهة، وفي داخل سحب أغبرة قضايا الفساد المتشكل بألف لون ولون وهو يعمي العيون في المشرق، وغير بعيد عن أصوات الجدل الذي يصم الآذان ولا يؤدي إلى حلول لمشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وخلال سحر المونديال وتشويق مبارياته وإعطاء الناس في منطقتنا مهلة شهر أثناء إقامة فعاليات كأس العالم لنسيان بؤسهم وأحزانهم وتلمس طرق مستقبلهم الذي يلفه الغموض؛ بينما كل هذا يحدث والكل يموج بالكل، وضجيج الفضائيات والإذاعات وأحبار سطور الصحف والمجلات يزداد كل يوم ومعه انشغال الناس بالإنترنت والشبكات وما تحتويه، مرر (أحدهم) في إحدى الصحف الخليجية إعلاناً صغيراً في زاوية صفحة المحليات.. يقول: "أنا سليمان علي: يوجد لدي مبلغ مالي لورثة سعد بن مانع، أرجو الاتصال على الجوال رقم...". ألم يخالجكم شعور (ما) وأنتم تقرؤون معي مثل هذا الإعلان في مثل هذه الأيام؟ أنا شخصيّاً سعيد ومندهش تارةً، وتارةً أخرى حزين ومتألم في مثل هذا الزمان الذي تتكالب فيه المطامع والأحقاد والشرور على الناس من الناس؛ يأتي رجل بسيط لا نعرفه، رجلٌ مجهول لن تجده على ما أعتقد في البنوك والشركات والفنادق الفخمة وصالات المطارات الخاصة، رجلٌ يصلي الفروض ويؤدي واجباته الدينية دون غلو ويتبضع ويذهب كما الساعة السويسرية إلى عمله ثم يعود إلى أسرته المتواضعة سكناً وحجماً ومكانة اجتماعية كما قررتها أعراف الناس البالية، يؤدي (سليمان) ما لله والعباد وما لنفسه وعائلته، دون أن يلفت انتباه أحد ودون أن يؤذي أحداً. القصة كما أتخيلها حدثت على الشكل الآتي: سليمان علي كان له صديق اسمه سعد بن مانع، استلف أو اقترض أو باع أو اشترى منه هذا العجيب في الزمن العجيب، لتنطوي الأيام والشهور والسنون التي لا يعلم عددها إلا الله، وبعد حين يُخبر سليمان بأن صديقه المحسن الآخر الذي لم يطالبه بماله.. قد توفي، وأن وثائق المال المقترض أو الذي كان نتيجة لبيع أو شراء، لم يتركها لورثته الصديق الذي لا يقل وفاءً عن صديقه النادر، لكي يعرفوا ما له وما عليه، إلى أن أتى غريب في زمن غريب، ودفع من ماله لإحدى الصحف مبلغاً مقابل إعلان ينبئ الورثة بأن والدهم قد ترك صديقاً يعادل كل أموال الدنيا، وأنه يطالبهم بسرعة الاتصال به لإعطائهم حق الله في المال، من رجلٍ يخاف الله وفتنة المال! كم يجلب هذا الإعلان ورمزه السعادة والدهشة؟ أما الحزن والألم فمرده غياب القيم التي يمثلها إعلان سليمان علي وشخصه وكل الشخوص التي تماثله، شخوص اختفت -تقريباً- من حياتنا، وأصبح أهل الوسطية في كل شيء.. إلا في الخير الذي يتطرفون فيه إلى أقصى حد، هم الأقلية في وسطٍ لم يعد يُسمع فيه إلا السرقات والفساد والاغتيالات وسفك الدماء والحروب التي تقع بسبب وبدون سبب، هم الأقلية التي لولاها لم يطب العيش الذي يشاركهم فيه مُلوثون أمثالنا بالأحقاد والبغضاء والتظالم والرغبة في قطع الأرزاق؛ يقول أبوالعلاء المعري في إحدى تجلياته: ما الخير صوم يذوب الصائمون له ولا صـلاة ولا صونٌ على جسدِ وإنمـا هو تـرك الشـر مُطّـرَحـاً ونفضك الصدرَ من غِلٍّ ومن حسدِ تكاثرت -يا سليمان علي- الشرور وأغلال الحسد، ولم يعد أحدٌ ينكر حالة التردي الأخلاقي إلا من رحم ربـي. لقد شملنا مقاصد قول أحد الحكماء القدماء وهو يصف الخير والشر وأهله: "لا يُنسب الشر إلى فاعلي الشر وحدهم، إنه يُنسب إلى الذين يمكنهم تجنب الشر ولا يفعلونه". لقد أسقطت منظومة القيم الجديدة المنظومة القديمة ومعها آليات الضبط الاجتماعي التي كانت تراقب مناشط القيم السابقة وفعاليتها المجتمعات الصغيرة نسبياً والتي كانت للدين والأعراف أدوار كبرى في تنظيم شؤون حياتها في الأيام الخوالي، وانقلبت على ذاتها وخصوصيتها، أصبح سلطان المال والرغبة المحمومة بالثراء والغنى السريعين والسباق نحو المراكز الاجتماعية والنجومية الاقتصادية، هي وقود حياة هذه المجتمعات التي كانت بسيطة في الشكل والمضمون. لم تعد تفتح صحيفة يومية أو تشاهد برنامجاً عن وقائع ما يحدث في المجتمع، إلا وتسمع عشرات بل مئات من حكايات النصب والاحتيال والجرائم بكل أشكالها، ولم تقتصر تلك الأحداث المؤسفة التي لوثت مجتمعاتنا على ما يقع بين الغرباء أو الشركاء فقط، بل شملت أيضاً أقارب الدرجة الأولى وما بعدهم. إليكم هذا المثال الذي عايشتُ أحداثه وأبطاله للمقارنة بين ما كان يحدث في السابق والآن: التحق زميل نابه من الذين كانوا يدرسون معي بعد تخرجه من الثانوية في إحدى الوزارات التي كانت تنشط أيامها في إرسال موظفيها للخارج ليعودوا مهندسين في حقل التنقيب عن النفط وصيانة الآبار، وقبل أن يذهب الصديق إلى بعثته للولايات المتحدة الأميركية مبتعثاً من قِبل جهته الرسمية وبعد أن عمل لمدة سنة في تلك الوزارة، أراد أن يتزوج ويشتري منـزلاً صغيراً له ولزوجته وما سيأتيه من الذرية، وبالفعل تم له الزواج وامتلاك المنـزل، ولم يتسنَّ له كل هذا إلا عندما اقترض مبلغاً يقارب الـ(500 ألف ريال) من زميل آخر ينشط في الأعمال التجارية. كان المبلغ المذكور يُصنف حينها بأنه كبير، وبعد مرور سنة من الزواج وسكن المنـزل حل موعد سداد قرض الصديق للصديق، لكن ضيق ذات اليد حال دون ذلك، قال ذلك المقترض ورضي بهذا الـمُقرض، ثم تكرر المشهد في السنة الثانية؛ وفي السنة الثالثة جاء الصديق المقترض لصديقه يخبره أنه يستعد وزوجته للسفر في بعثة لأميركا ولمدة ثلاث سنوات، وإنه ليس في حاجة للمنـزل الذي في بلده حاليّاً، إضافةً إلى أنه لم يستطع ولن يستطيع تدبير مبلغ القرض، ولهذه الأسباب سيُفرغ البيت من ملكيته إلى ملكية صديقه على أن يبيع الصديق المنـزل ويأخذ ماله ويضع الباقي في الحساب البنكي للصديق المقترض. ... وتمر سنتان وأحد طرفي القصة في الغربة بالولايات المتحدة، وفي صبح يومٍ أميركي يتلقى هذا الصديق مكالمة محلية من صديقه الآخر، والذي أخبره أنه في أميركا لعمل تجاري خاص به، وأنه يرغب في تناول وجبة عشاء وطنية في منـزل صديقه الذي لم يره منذ سنتين. بعد العشاء قال الصديق القادم للتو من الوطن بأن المنـزل الذي أُفرغ باسمه سداداً للقرض قد ظل في ملكيته إلى أن بدأت أسعار العقارات بالصعود الجنوني للأعلى إثر حرب رمضان عام 1973م، وأن المنـزل كان يُثمن بحوالي 700 ألف ريال، وأنه حسب هذا التثمين يبقى للصديق المقترض مئتا ألف ريال، لكن تضخم أسعار المنازل أوصل المبلغ إلى مليونين ونصف المليون ريال، وأن الحاسبة تقول: بأن للصديق مليوني ريال بعد خصم قيمة القرض، وأن الصديق رجل الأعمال قد أنهى البيع وقبض ماله ووضع الباقي في حساب صديقه المقترض. الصديق المبتعث لم يتمالك نفسه: بكى ونهض ليُقبِّل جبين الصديق الوفي المخلص الصبور، وأقسم بأن يأخذ الصديق نصف مليون أخرى نظير جزء من التقدير الذي يكنه له والذي لا يقدر بثمن! هذه القصة لم تكن تعني شيئاً في السابق، وعندما سردتها لآخرين وأنا أستعدُ لكتابة هذا المقال ضحك بعضهم من سذاجة صاحب القرض، وشكك آخرون في ذمته، واستغرب البعض منهم أشد الاستغراب من تنازل المقترض عن جزء من حقوقه بعد سداد ما عليه! ماذا فعل بنا -يا سليمان علي- إعلانك الصغير ذاك؟ ولماذا الآن؟