أثارت تصريحات أحد الكتاب الخليجيين بخصوص مستقبل البلدان الخليجية المحدودة السكان والحيز الجغرافي جدلاً واسعاً في الصحافة العربية.ولم تكن فحوى تصريحاته بالجديدة. فقد سبق أن تنبأ الرجل بالمشهد ذاته، كما سبق غيره أن توقع المسار نفسه (مسار التحلل والانهيار). والواقع، أن لهذا التصور خلفيات ثلاث، تنتمي لسياقات مرجعية متمايزة: - أولى الخلفيات:ما استقر في أدبيات الفكر القومي العربي الكلاسيكي من "عدم مشروعية" الكيانات المدعوة بالقطرية، التي ينظر إليها كحالة تجزئة غير طبيعية، مفروضة خارجياً، ومرشحة للانحسار والاختفاء، في أفق الوحدة العربية المنشودة، بوصفها "حتمية تاريخية" لا محيد عنها. وفق هذا التصور، تتعين الحاجة إلى ما أطلق عليه سراة الفكر القومي الأوائل "الإقليم القاعدة"، أي الدولة المحورية التي تقود عملية الدمج والتوحد، وربما الضم القسري إذا اقتضت الضرورة وسمحت الإمكانات العملية. - ثانية الخلفيات:ما استقر في بعض الأدبيات المستقبلية (التي كانت موضة ساحرة في نهاية الثمانينات من القرن العشرين) من أن لا مستقبل للكيانات الصغيرة (التي يقل سكانها عن 300 أو 500 مليون حسب التقديرات المتفاوتة). ومن ثم فإن حاجة البلدان العربية إلى التوحد ليست مجرد خيار إيديولوجي، بل حتمية إستراتيجية واقتصادية وتنموية. والدليل العملي على صدق هذه الأطروحة هو حركية الاندماج الأوروبي التي أفضت إلى توحد عدد من أعرق الدول وأكثرها تقدماً ونمواً.فكيف بالبلدان الصغيرة التي لا يمكن أن تقوم بأمنها ولا تصلح لأن تكون سوقاً اقتصادية مكتملة؟ - ثالثة الخلفيات : ما استقر في الأدبيات الاستراتيجية والاقتصادية من تداعيات حركية العولمة المتنامية على الكيانات الوطنية، التي أصبحت فاقدة للسيادة، بحيث يصبح خيار الاندماج الشرط الأوحد للبقاء في عالم اختفت فيه الحدود وانهارت التخوم. وإذا تأملنا النظر في هذه المقاربات الثلاث التي يعضد بعضها بعضا، ظهر لنا بجلاء أنها تخلط بين ديناميكيتين متمايزين من حيث المنطق الغائي والدلالات الثاوية. أما الديناميكية الأولى فتتعلق بعلاقة الدولة والأمة في مسار نشأة الدولة الوطنية العربية التي هي في غالب الأحيان حالة سياسية مستحدثة، حتى لو كانت تستند غالباً إلى تركة تاريخية ليست بالقريبة (درس محمد جابر الأنصاري ببراعة الجذور البعيدة للتجزئة العربية في إعماله الهامة). فغني عن البيان أن للعربي ولاء مزدوجا لأمته ووطنه، وإن هذا الولاء يفتقد للتجسد في بنيات مؤسسية فعلية. ومن المشروع التساؤل هل يتعين القضاء على الدولة الوطنية التي هي حاضنة الانتماء المحلي من أجل القدرة على التعبير العملي عن مبدأ الولاء للأمة، أم أن المطلوب هو إبداع الصيغ السياسية والدستورية والإجرائية لمصالحة العربي مع انتمائه المزدوج لبلاده وفضائه القومي؟ إن المشكل ينبع حسب اعتقادنا من استيراد اختزالي لمفهوم المواطنة من السجل القومي الأوروبي، الذي حصر هذا المفهوم في البعد الوطني الضيق، نظراً لانسجام الكيانين الوطني والقومي بعد قيام الوحدات القومية الكبرى في أوروبا في القرن التاسع عشر (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا...). والمشكل المطروح عربياً هو الذي طرح في السياقين الأميركيين جنوباً وشمالًا في اتجاهين :التعددية القومية الثقافية في كندا، وتعددية الدول الأميركية اللاتينية المنتمية لنفس الفضاء القومي الثقافي. ففي الحالة الأولى، ظهرت أطروحات جديدة تدعو لحماية الهوية الثقافية المغايرة من خلال الإقرار بها دستورياً وعملياً (المواطنة الثقافية إلى جانب المواطنة السياسية). وفي الحالة الثانية، تبلورت مقاربة اندماجية لا تلغي الكيانات الوطنية القائمة، وإنما تدعو إلى التعبير عن هويتها الثقافية المشتركة في عقد مواطنة يتجاوز الحدود السياسية القائمة. أما الديناميكية الثانية، فتتعلق بعلاقة الدولة والسيادة في المجتمعات الراهنة. فما لا يدركه الكثيرون هو أن احتكار الدولة لمقوم السيادة أمر تاريخي محدد النشأة، ترجع بداياته إلى القرن الثامن عشر، ذلك أن مفهوم السيادة يرجع في جذوره النظرية إلى القاموس اللاهوتي، وقد مر بمرحلتين متمايزتين :المرحلة الإطلاقية التي عوض فيها الحاكم المستبد الدين في سلطته على الناس (التنين الهوبزي)، والمرحلة الديمقراطية التي تحولت فيها السيادة من الحاكم إلى الشعب (الإرادة المشتركة لدى روسو). والسؤال الذي طرح في الفكر السياسي الأوروبي هو: ما هي حدود المواطنة المتأسسة على الإرادة المشتركة التي تقوم على حق التعاقد الذي يكرس حالة قانونية بدل الاستناد إلى هوية عضوية جوهرية (الانتماء لدين أو عرق أو قبيلة)؟ فانحصار المواطنة في الدولة القومية لم يكن خياراً حتمياً ولا طبيعياً ، بل أن الفيلسوف الألماني الكبير "هابرماس" اعتبره حدثاً عارضاً لا يمكن الدفاع عنه بالمنطق الليبرالي الديمقراطي، الذي لا يعترف إلا بالشرعية الإجرائية التعاقدية الحرة في مقابل القوالب القبلية المفروضة. ولذا يعيد "هابرماس" الاعتبار لمفهوم "المواطنة الدستورية "، الذي بلوره كانط باحتشام، في الوقت الذي يدعو الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" إلى إغناء مبدأ المواطنة بمبدأ "الضيافة"، الذي ألمح إليه كانط نفسه. فمن الممكن بداهة إعادة النظر في علاقة الدولة والسيادة، وهو المسار الذي بدأ فعلًا ووضعت له آلياته العملية وتصوراته النظرية وضوابطه التشريعية. ومن بين المفاهيم الرائجة في أيامنا التي تعبر عن هذا الاتجاه مقولات "السيادة المتقاسمة" و"الحكامة الدولية" و"حق التدخل الإنساني" و"الاختصاص التشريعي الكوني"(في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية)... وليس من الصحيح أن العولمة تفضي ضرورة إلى القضاء على الكيانات الصغيرة، بل الأصح أنها تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والسوق والأمن، بحيث تكون الدولة (بما فيها البلدان الأكثر قوة وعراقة) عاجزة عن احتكار سيادتها في مجالات المال والأمن والاتصال ... والنتيجة الأساسية التي نخلص إليها، هو أنه إذا كان من الحقيقة أن الاندماج الخليجي والعربي مطلب وموضوعي، إلا أن التحدي ليس الدول "الصغيرة" بل تغير شكل الدولة نفسه ورهاناتها. وفي هذا الأفق، لا أحد أفضل حالاً من الآخر.