إذا كان كثيرون مستلبين للإعلام الأميركي وللموضة الأميركية ولطعام أميركي سريع، ولسياسة أميركية تكيل بأكثر من مكيال في أمور شتى. فاليوم تجد معظم شعوب الدول النامية نفسها مستلبة في الصحة والدواء، وهذا خطر جسيم يشكل تهديداً من نوع جديد لهذه الشعوب! فقد شنت وكالة الأغذية والأدوية الأميركية حرباً ضروساً ضد فيتامين محدد، لكنها في الوقت نفسه تجاهلت أدوية مضرة أخرى تسببت في موت العشرات، وذلك خدمة لمصالح متنفذين لديها، وهو التساؤل الذي أثاره عضو الكونجرس "كريج هوسمار". وتأتي اليوم منظمة الصحة العالمية لتعتذر عن إعلانها عن أنفلونزا الخنازير، الذي رفعت درجة خطورته في الصيف الماضي إلى درجة الوباء، وفي حقيقته كان فيروساً معتاداً بالإمكان مقاومته بدواء يُباع على أرفف الصيدليات! وكأن كل الهلع والخسائر الاقتصادية لم تكن إلا وهماً عشناه نحن شعوب الدول النامية التي عادة ما تكون مغلوبة على أمرها. وتبدو أسماء سياسية، كديك تشيني ورامسفيلد أسماء لها علاقة وثيقة بشركات الدواء العملاقة، فالدواء ليس أمراً للعلاج فقط، إنه يختلط بسياسات وسياسيين ومصالح مشتركة عديدة تخدم مصالح هذه الأسماء، وتعكس حجم المافيا التي تتحكم بصحة البشر ومصائرهم. نحن بالفعل نعيش في سجن كبير، كما كان نعوم تشومسكي يكرر كثيراً في مؤلفاته التي تهاجم سياسات الولايات المتحدة تجاه العالم. لكن الأمر لا يتعلق هذه المرة بأبناء دول العالم الثالث، بل حتى بشعوبهم التي تتعرض بشكل كبير إلى عملية استنزاف واستغلال في مجال حيوي ومهم كالدواء الذي يجد المريض نفسه في أمس الحاجة إليه. فالأمر لا يتعلق بلقاحات أو أدوية معتادة، إنه يصل إلى المركبات الكيميائية التي يتم بها معالجة المصابين بأمراض خطيرة كالسرطان، فإيجاد بدائل لهذه المركبات المهلكة للخلايا الحية ليس بالأمر المقبول، لأنه سيؤثر على المبيعات الضخمة التي تحققها هذه الأدوية. إنه سجن بامتياز، أسواره صناعة أميركية بحتة، وُضع داخلها معظم سكان الكرة الأرضية لأن هذه الصناعة ببساطة تملك العقار الشافي لأمراض وأوبئة البشر. هذا النوع من السيطرة سيخلف تبعات مهلكة بالضرورة، فالأدوية المميتة التي يتناولها المرضى كل يوم، يغض عنها وعن آثارها الجانبية الطرف، حتى لا تخسر الشركة المصنعة لها، وبالتالي تنهار مؤسسات دوائية قائمة على نظام الأرباح الصافية التي يتم تحقيقها في نهاية كل عام. وعندما تحكي قصص الاعتقالات لأطباء رفضوا الانصياع لشركات الأدوية الأخطبوطية، كالطبيبين "آرنست كريس" و"ريتشارد سون"، فإنها تقول الحقيقة لأن الاضطهاد وصل إلى ضمير هؤلاء الذين يطالبون بعدم احتكار أدوية السرطان وعدم فرض حظر على الأطباء الذين وصفوا لمرضاهم بدائل فعالة في العلاج. فالمشكلة تمتد فروعها لتشمل تفاصيل حياتية يومية، فالتعليم في بعض البلدان النامية، يتجه إلى الفكر الأميركي ويعزز من قيم رأسمالية لا تفكر إلا في مصالح المتنفذين.