يدور حاليّاً جدل واسع في أوساط ثقافية عربية عديدة بعد أن أقرت قمة سرت في مارس الماضي انعقاد قمة ثقافية عربية من حيث المبدأ. كانت فكرة هذه القمة قد طرحت للمرة الأولى في مقال للمفكر والسياسي المصري البارز د. مصطفى الفقي، ثم طرح اتحاد الكُتاب العرب الفكرة مجدداً في مؤتمر الاتحاد الذي انعقد في مدينة سرت في أكتوبر 2009، وتحمست "مؤسسة الفكر العربي" في بيروت للفكرة وحملتها للأمانة العامة لجامعة الدول العربية حيث بادر الأمين العام بالدعوة إلى اجتماع حضره عديد من مثقفي العرب البارزين بالإضافة إلى مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وتم تفاهم على أن تكون المنظمة شريكاً للجامعة الأم في الإعداد للقمة الثقافية مع أقصى درجة ممكنة من الانفتاح على منظمات المجتمع المدني المعنية بالشأن الثقافي وكذلك على المثقفين العرب ذوي الإسهام البارز في مسيرة الثقافة العربية. ويبدو أن ثمة تناقضاً يقبع في خلفية المشهد السابق بين الحاجة إلى دعم رسمي رفيع المستوى للثقافة العربية على النحو الذي يمكن المسؤولين عن الثقافة العربية من اتخاذ قرارات لا غنى عنها لتقدم هذه الثقافة، وبين القلق المشروع من أن يكون اضطلاع قمة عربية بالنظر في الشأن الثقافي قيداً على الثقافة العربية وليس دعماً لها. ومن ثم يرى هؤلاء القلقون أن الأفضل هو ألا تمكن القمم العربية من البحث في الشأن الثقافي أصلاً، وأن يحافظ المثقفون في كل قطر عربي على ما هو متوفر لهم من حرية الإبداع، ويحاولوا زيادة مساحة هذه الحرية بنضالهم الدؤوب في أقطارهم. وهناك مشكلة أخرى تواجه عقد القمة الثقافية تتعلق بالقضايا التي ينبغي أن تعرض على هذه القمة، ويمكن التمييز بين نهجين في هذا الصدد: الأول يرى أن توضع القضايا الثقافية على جدول أعمال القمة دون استثناء كي ترتفع القمة إلى المستوى المطلوب، بينما يرى النهج الثاني أن القمة يجب أن تبحث فقط في القضايا التي يمكن أن يتحقق حولها أكبر قدر من القواسم المشتركة حتى يمكن الخروج بقرارات مواتية قابلة للتطبيق على أرض الواقع. يطرح أنصار النهج الأول قضايا مثل غياب الثقافة الديمقراطية في الوطن العربي، الأمر الذي يجعل من محاولات الإصلاح الديمقراطي في الأقطار العربية عبثاً، وقضايا الغلو الديني الذي بات يتسرب إلى قطاعات أوسع من الشباب العربي حاملاً معه قيماً وأفكاراً لا تمت لصحيح الدين بصلة، مما يشكل جسراً قويّاً لهؤلاء الشباب يصلهم بقافلة الإرهاب المتستر بالدين، وثقافة المقاومة التي يرى هؤلاء الأنصار أنه لا نجاة للنظام العربي ولا حماية لأمنه من دونها، وثقافة الاحتجاج التي تغلغلت في قطاعات من الشباب العربي على ضوء وسائط الاتصال التي تتيحها شبكة المعلومات الدولية. وفي هذا الصدد لابد من فهم هؤلاء الشباب وأسباب إحباطهم والعمل على القضاء على مسببات هذا الإحباط. وبدون مواجهة هذه القضايا وغيرها يرى أنصار هذا النهج أن القمة الثقافية المقترحة ستكون بمثابة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال. لا ينكر أنصار النهج الثاني الأهمية الفائقة للقضايا السابقة، غير أنهم يرون أن القمة الثقافية العربية بسبب طابعها السياسي الرسمي ليست هي المكان الملائم لطرح هذه القضايا، على الأقل في دورتها الأولى التي ستكون استكشافية بالتأكيد، وإلى أن ترسخ فكرة القمة الثقافية في العمل العربي المشترك ينبغي أن توكل لها قضايا أخرى بالغة الأهمية بدورها، لكنها تتميز عن سابقتها بإمكان تحقيق قواسم مشتركة حولها، ومن الممكن إيجاد حلول بديلة لبحث النوع الأول من القضايا من بينها أن تكون هذه القضايا موضوعاً لدراسات متعمقة تعرض على الحكام العرب دون أن تطالبهم بشيء، ومن الحلول أيضاً أن ينعقد مؤتمر للمثقفين للعرب يكون موازيّاً للقمة الثقافية العربية ويناقش هذه القضايا بروح من الحرية والمسؤولية معاً، على أن ترفع نتائجه للقمة الثقافية العربية ولو من قبيل الإحاطة. أما القضايا التي يرى أنصار هذا النهج الثاني ضرورة البدء بعرضها على القمة فهي عديدة، وفي مقدمتها ضرورة اتخاذ خطوات جادة وفعالة من أجل حماية اللغة العربية التي تعد بمثابة حجر الأساس بالنسبة للرابطة العربية، إذ لا يخفى أن هذه اللغة باتت تتعرض لمخاطر شتى سواء بسبب انتشار التعليم الأجنبي في الوطن العربي، أو العمالة الأجنبية في عدد من الأقطار العربية، أو بسبب الغلو في استخدام اللهجات العامية العربية في بعض الأقطار، وأخيراً وليس آخراً بسبب الثورة التكنولوجية المعاصرة كما تتبدى في شبكة المعلومات الدولية ولغة الحاسوب التي بدأ عديد من مفرداتها الأجنبية يدخل إلى قاموس اللغة العربية المستعملة. ومن القضايا التي يمكن بناء حد مقبول من القواسم المشتركة حولها حماية التراث العربي الذي أهملناه طويلاً، وتجرأ البعض عليه سواء نتيجة هذا الإهمال، أو لأهداف سياسية غير خافية، كما في المساعي الإسرائيلية الدؤوبة من أجل تسجيل معالم بارزة للتراث الفلسطيني العربي ضمن التراث الصهيوني. ومن هذه القضايا كذلك التيسير على صناعة الكتاب العربي بحيث تنخفض تكلفته إلى الحد الأدنى، ويصبح في متناول القارئ العادي، وليس حكراً على شريحة محدودة يمكنها تحمل الأسعار المرتفعة للكتاب العربي في الوقت الراهن. ومنها كذلك السعي إلى أن يكون الوطن العربي سوقاً حرة للكتاب العربي بما ييسر التواصل الثقافي بين أقطار الوطن العربي. ومن هذه القضايا أيضاً ضرورة العمل على تحسين الصورة العربية في الخارج بعد أن ألحقت الممارسات الإرهابية بها ما ألحقته من أضرار تلقفتها الدوائر المعادية للعرب بكل الترحاب والعناية حتى بات العربي يكاد يكون شخصاً غير مرغوب فيه في العالم الغربي بصفة خاصة، وكذلك فإن فكرة حوار الحضارات التي تبناها العرب كرد على النظرية البائدة لصدام الحضارات يجب أن تكون موضع اهتمام دائم من الدوائر الثقافية العربية الرسمية وغير الرسمية من أجل علاقات أوثق وأنفع بـ"الآخر"، وأخيراً وليس آخراً فإن نقل الإبداع الثقافي العربي للخارج من خلال عملية مؤسسية للترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى هو أمر يجب أن يحظى بكل اهتمام من القمة الثقافية العربية. وتحتاج كافة هذه القضايا دون شك إلى دراسات حقيقية، إذ لا ينبغي أن تكون مجرد أفكار مجردة تطرح على المسؤولين العرب سواء على الصعيد الوزاري التمهيدي، أو على صعيد القمة صاحبة القرار، وبعض هذه الدراسات قد يأخذ شكل دراسات الجدوى كما في التيسير على صناعة الكتاب وسوقه العربية، وبعضها الآخر قد يفرض رؤى فكرية عميقة كما في تحسين الصورة العربية والحوار مع الآخر، وبعض ثالث قد يتطلب اتخاذ قرارات سياسية جريئة كما في حماية اللغة والتراث العربيين، ولكن القضايا كافة ينبغي أن تطرح على القمة على نحو متعمق وليس كمجرد خواطر أو هواجس، ويحتاج هذا إلى أوسع مشاركة ممكنة من المثقفين العرب ومراكز البحوث وكافة المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي العربي، فإن وفقت القمة الثقافية المرتقبة في التصدي لبعض هذه القضايا فسيكون هذا نجاحاً لاشك فيه تبدأ بعده عمليات متابعة التنفيذ في سياق تعودنا فيه الاكتفاء بإصدار القرارات. وهذه قصة أخرى.