طويلاً ما انتظرت المكتبة، العربيّة وغير العربيّة، صدور كتاب جدّيّ عن العرب والمحرقة النازيّة لليهود. فالمسألة هذه مهمّة بذاتها، تاريخيّاً وأخلاقيّاً، سياسيّاً ومعرفيّاً. فكيف وأن تلك العلاقة ارتبطت، عميق الارتباط، بالصراع العربيّ- الإسرائيليّ، كما زادت في تعقيد التواصل، المعقّد أصلاً، بين العرب (على رغم ما في هذا التعبير من تعميم) وبين المزاج الكونيّ وحساسيّاته. وإلى ذلك، وفي موازاة المبالغة الصهيونيّة في استثمار المحرقة لأغراض يصعب وصفها بالنبل، يتعاظم الإنكار العربيّ لها مع تعاظم الدور الذي تلعبه القوى الشعبويّة والدينيّة في الصراع العربيّ مع إسرائيل. لقد جاء كتاب الباحث اللبنانيّ جيلبير الأشقر "العرب والمحرقة- حرب المرويّات الإسرائيليّة العربيّة"، الصادر بالعربيّة والإنجليزيّة عن "دار الساقي"، والصادر في الوقت نفسه بالفرنسيّة، يقدّم مساهمة بعيدة الشمول والإحاطة وبالغة الغنى في الموضوع الذي نحن بصدده. فالكاتب، وعلى مدى مئات الصفحات، تولّى رصد التطوّر الذي طرأ على النظرة والسرد بالاعتماد على ألسنة وأقلام فاعلين كبار كالحاج أمين الحسيني والشيخ رشيد رضا وشكيب أرسلان وجمال عبدالناصر وحزب "البعث" والمقاومة الفلسطينيّة والأحزاب الشيوعيّة العربيّة، كما على ألسنة وأقلام أقلّ تأثيراً لسياسيّين ولكتّاب ومثقّفين، وذلك منذ اللحظات الأولى للاحتكاك الفلسطينيّ-العربيّ/ اليهوديّ. والأشقر، على عكس معظم الذين يقفون سياسيّاً على مقربة منه، يتميّز بعدد من المواصفات التي تخوّله أن يطرق الموضوع هذا: فهو، أوّلاً، باحث جدّيّ يرصد معلومته ويتحرّاها. وهو، ثانياً، نزيه وأمين حتّى حين يبحث عن أسباب تخفيفيّة لهذا الطرف العربيّ أو ذاك. وهو، ثالثاً، وفي معزل عن ولائه للقضيّة الفلسطينيّة كقضيّة تحرّر وطنيّ، يملك الحساسيّة الجدّيّة والصادقة حيال المحرقة. وفي هذا المعنى يقوم الكتاب على تمييزات تفصيليّة كثيرة، بعضها صريح وبعضها ضمنيّ، يتصدّرها التمييز بين اللاساميّة المسيحيّة الأوروبيّة التي نشأت استناداً إلى تعصّب وتهويمات وخرافات وبين معادلها في العالم العربيّ والإسلاميّ الذي ظهر بنتيجة صراع فعليّ على الأرض والبقاء. ويستتبع هذا التمييز تمييزاً آخر بين إنكاري المحرقة: فالغربيّ منهما يتفرّع عن منظومة الوعي العنصريّ التي تحمله على التذرّع بعلمويّات زائفة، بينما العربيّ والإسلاميّ منهما يردّ بالإنكار على استخدام إسرائيل للمحرقة وعلى نجاحها في ذلك، أو أنّه يردّ رمزيّاً على عنف فعليّ تمارسه الدولة العبريّة عليه. وهذا ما يجيز لجيلبير الأشقر اعتبار الإنكار العربيّ والمسلم طريقة البلهاء في مناهضة الصهيونيّة، تيمّناً بالعبارة الشهيرة للاشتراكيّ الألمانيّ أوغست بيبل من أنّ اللاساميّة إنّما هي اشتراكيّة البلهاء. لكنّ ما نزعمه أنّ الأوجه التي تناولها الكتاب لا تختصر المشكلة، أو أن ظاهر المشكلة (وفي هذه الحدود أصاب الأشقر) لا يختصر بواطنها العميقة. فالأمر يتعدّى السطح السياسيّ المباشر إلى الموقع الذي احتلّته وتحتلّه محمولات الحداثة في فكرنا العربيّ السائد، السياسيّ منه وغير السياسيّ. لقد غدت المحرقة واحدة من تعابير الحساسيّة الأوروبيّة لأسباب يكمن أحدها في أنّ أوروبيّين هم من ارتكبوها. لكنّ تصدير تلك الحساسيّة إلى خارجها لم ينجح، تماماً بقدر ما أنّ هذا الخارج آثر ألاّ يستوردها. والعمليّة هذه هي ما أعاقها الصراع على فلسطين، بقدر ما أعاقها ميل بعض الصهاينة الغلاة إلى إبقائها احتكاراً استثنائيّاً بحيث لا تنحلّ الضحويّة اليهوديّة في ضحويّة إنسانيّة أشمل. بيد أنّ استيعاب المحرقة هو، بالتأكيد، أكثر الصادرات الأوروبيّة تطلّباً للوعي الكونيّ. وهنا لعب الافتقار العربيّ والإسلاميّ إلى مثل هذا الوعي دوره غير الظاهر. وإلاّ كيف نفسّر انتقال الإنكار إلى كتل جماهيريّة عريضة لم يحصل أيّ صراع على الأرض بينها وبين اليهود؟ قد يقال، ردّاً على هذا السؤال، إنّ التضامن الدينيّ مع مأساة الفلسطينيّين هو ما وسّع رقعة الإنكار مشرقاً ومغرباً. لكنّنا إذا ما اعتمدنا هذا التأويل قدّمنا برهاناً آخر على الافتقار المذكور وعلى غلبة الولاءات السابقة على الحداثة قياساً بالمستوى السياسيّ الحديث ممثّلاً بالدولة- الأمّة. في هذه الحدود يصعب الكلام عن إنكار المحرقة في معزل عن ذاك البُعد غير المرئيّ، أي رفض استيراد "السلع" الأوروبيّة على عمومها. فالديمقراطيّة لم تصبح مرّةً مطلباً جماهيريّاً، أمّا الاشتراكيّة التي أنتجت ذات مرّة حزبين شيوعيّين قويّين في السودان والعراق، متراكبين مع الانقسامات الأهليّة للبلدين، فما لبثت أن ضمرت في زمن الصعود العلنيّ للروابط الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة. أمّا الدول- الأمم فتحايلنا باللغة لإنكارها: هكذا سمّيناها "أقطاراً" (وهي كلمة لا ترجمة لها في أيّة لغة عالميّة)، ثمّ "وعدناها" بالتذويب في "أمّة عربيّة" و"وطن عربيّ" و"أمّة إسلاميّة" ممّا لا يقدّم الواقع أيّة قرينة عليه. وهذا الإنكار الأخير للدولة- الأمّة، على تعدّد صيغه، كان دائماً الأخطر: فهو الذي منح الشرعيّة لهيجانات جماهيريّة (والجماهير عندنا ليست جماهير مهن وأحزاب ونقابات، بل أقرب إلى بروليتاريا رثّة) استندت إليها الانقلابات العسكريّة ثمّ الأصوليّات الدينيّة. وقد كان للصعود الشعبويّ هذا، وغالباً باسم الموضوع الفلسطينيّ، أنّ وتّر الحياة العامّة ووجّه شفرته إلى الأقليّات الدينيّة والإثنيّة وإلى الفئات الاجتماعيّة الأقدر على إنشاء حيّز عامّ لا ديمقراطيّة ولا حياة سياسيّة من دونه. وغنيّ عن القول إنّ الإقرار بالمحرقة في وضع كهذا، تفنى معه الأقليّات أو تهاجر، هو أقرب إلى كماليّات لا يطالب بها إلاّ مجانين أو "عملاء". بلغة أخرى، ينتسب الخروج من الإنكار الذي يعالجه جيلبير الأشقر إلى خروج أكبر من إنكارات أكبر، أي أنّه يتطلّب رفع ولائنا للحداثة وخفض درجة ولاءاتنا الأخرى. وهذا إذا ما كان يستدعي شروطاً كثيرة فإن شرطه الأوّل وقف إطلاق النار في الاتّجاهات كلّها باسم أنواع لا حصر لها من معارك الجماعات الإثنيّة والدينيّة والطائفيّة المسمّاة "وطنيّة". وتقول التجارب التي لا حصر لها إنّ إشعال النيران لا يفعل، في تربتنا العربيّة، إلاّ قضم أشخاص كمثل جيلبير الأشقر نحتاج إلى جهودهم وعقولهم، ورفع أشخاص متعصّبين وضيّقي الأفق إلى ذرانا الأعلى.