معاناة أميركا في أفغانستان، لا يمكن أن تمضي إلى ما لانهاية، بل يجب وضع حد لها، بطريقة أو بأخرى. فالأكلاف التي تكبدتها الولايات المتحدة والمتمثلة في مصرع ألف جندي، وإصابة عدة آلاف آخرين، وإنفاق ما يزيد على 300 مليار دولار هي في الحقيقة أكثر مما يمكن تبريره بشكل منطقي. ولو كانت الحقائق على الأرض تشير إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها من دول "الناتو" يكسبون الحرب، لتوافرت الحُجّة للاستمرار في ضخ المزيد من الرجال والأموال على أمل تحقيق انتصار صريح في نهاية المطاف، ولكن الشواهد تدل على أن الحال ليست على هذا النحو، فالحقيقة أن الولايات المتحدة، تواجه إن لم يكن "هزيمة"، فعلى الأقل تعادلًا. وقرار الجنرال"ستانلي ماكريستال" بتأخير الهجوم المخطط له على معقل "طالبان" في"قندهار"لعدة شهور، يمثل في حد ذاته علامة على شيئين: الإنهاك الأميركي، وعدم اليقين الاستراتيجي. فما الذي يمكن عمله في أوضاع مثل هذه؟ المهمة الأولى التي يتعين القيام بها، هي توضيح الموضوعات ووضع النقاط فوق الحروف. فأوباما قال إن الولايات المتحدة موجودة في أفغانستان من أجل تدمير" القاعدة"، ولكن الحقيقة هي أن"طالبان" ليست هي "القاعدة". فـ"طالبان" هي حركة مقاومة قبلية وإسلامية يتم تجنيد أفرادها من بين قبائل "البشتون"، وهي المجموعة العرقية الأكبر في أفغانستان، التي يشتهر أفرادها بحرصهم الشديد على استقلالهم، وكراهيتهم للسيطرة الأجنبية، وارتباطهم الشديد بعقيدتهم الدينية، وتقاليدهم القبلية. صحيح أن"طالبان" - أو جزءا منها على الأقل - قد وفرت في وقت سابق الملاذ والحماية، لبعض مقاتلي تنظيم "القاعدة"، ولكن ذلك ليس مدعاة للخلط بين الاثنين. معظم الخبراء يعتقدون أن وجود "القاعدة" في أفغانستان محدود للغاية، وأن قادتها قد سعوا إلى الحصول على ملاذ لهم في المناطق القبلية الواقعة في شمال غرب باكستان على امتداد حدودها مع أفغانستان. هناك مصدر آخر لخلط كبير، ألا وهو ذلك التضارب القائم بين عقيدة مكافحة الإرهاب وعقيدة مكافحة التمرد لدى أميركا، والذي كان سبباً لمناقشة محتدمة في واشنطن. فالعقيدة الأولى تعني" العثور على وتدمير الإرهابيين"، أما الثانية فتعني" كسب، وحماية، السكان المحليين المدنيين لإبعادهم عن "الإرهابيين". حتى الآن لم تختر الولايات المتحدة بشكل واضح إحدى العقيدتين على حساب الأخرى، وإنما تقوم كما تدل الشواهد، بأخذ طرف من هذه وطرف من تلك، وهو ما يؤدي إلى نتائج غير مرضية على الأرض. والهجمات الصاروخية التي تنفذها الطائرات التي تطير من دون طيار، مثال على العمليات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، ولكن نظراً لأن تلك العمليات تؤدي إلى مصرع أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء، فأنها تؤدي لإثارة مشاعر سخط قوية مناوئة للأميركيين. عمليات مكافحة التمرد، تعني توفير الوظائف للسكان المحليين، وتزويدهم بالتعليم، والخدمات الطبية، والنظام القضائي، والحكم الرشيد. وهذه كلها أهداف تدعو للإعجاب، بيد أن تحقيقها صعب للغاية في ظروف الحرب، خصوصاً عندما يكون المتمردون، وليس الولايات المتحدة، هم الذين يكسبون الحرب. وإذا كان هذا هو الوضع - لسوء الحظ - فمن الواضح أن الولايات المتحدة ليس أمامها سوى الاختيار الانسحاب من أفغانستان، ومعاناة المشكلات السياسية الحتمية التي ستترتب على ذلك، أو الاستمرار في حرب يصعب إحراز الانتصار فيها، ونزف المزيد من الدماء بالتالي، والغوص أكثر في المستنقع الأفغاني. هل هناك خيار ثالث؟ نعم، هناك خيار ثالث بالفعل، ولكن لم يتم النظر فيه بشكل جدي حتى الآن. هذا الخيار يتمثل في استخدام موارد أميركا الهائلة، ونفوذها الكبير، في البحث عن تسوية من خلال التفاوض مع متمردي طالبان. وسيتطلب هذا اتخاذ عدد من القرارات الرئيسية. القرار الأول هو إعطاء باكستان دور في أي عملية سلام، والاعتراف بحاجتها لأن تكون قوة خارجية مهيمنة في أفغانستان في مرحلة ما بعد الحرب. فباكستان مسكونة بالخوف من أن تجد نفسها يوما واقعة بين "هند" معادية وأفغانستان موالية لنيودلهي. لذلك السبب تحديداً تحافظ باكستان على علاقات وإن تكن سرية، مع بعض فصائل "طالبان"، لأنها تدرك تماماً أنها سوف تحتاج إليها، كحلفاء لها بمجرد أن تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان وهو ما ستقوم به حتماً في نهاية المطاف. معنى ذلك أن باكستان تعتبر " مُوَصِّلا جيدا" لـ"طالبان" وهو "مُوَصِّل" يجب استخدامه. القرار الثاني الرئيسي: هو العمل على إشراك بعض الدول الأخرى ذات النفوذ، والواقعة في منطقة الجوار الأفغاني، مثل إيران وتركيا بشكل خاص، إضافة إلى روسيا والصين، وذلك من أجل التوصل لتسوية. غير أن المشكلة في هذا السياق هي أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تطلب من طهران وأنقرة، أن يقدما لها خدمةً في الوقت الذي تقوم فيه - تحت ضغط إسرائيلي - بتشديد العقوبات ضد الأولى، والسماح للتوتر في العلاقات أن يتصاعد مع الثانية. القرار الثالث الرئيسي هو حشد الدعم المحلي والدولي اللازم لعقد مجلس قبائل" لويا جيرجا" آخر، يشبه إلى حد ما ذلك الذي عقده حامد كرزاي مؤخرا، بشرط أن تكون أهداف المجلس الجديد أكثر تحديداً ووضوحاً من سابقه. وهذه الأهداف يجب أن تتضمن: (أ) إعلان وقف إطلاق النار في كافة أرجاء أفغانستان.(ب) الحصول على تعهد من الولايات المتحدة بسحب جميع القوات الأجنبية الموجودة في أفغانستان، إذا صمد وقف إطلاق النار لمدة عام كامل.(ج) الحصول على وعد مؤكد بأنه بمجرد التيقن من صمود وقف إطلاق النار لمدة كافية، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها سيقدمون حزمة مساعدات لأفغانستان تقدر بعدة مليارات من الدولارات على مدى عشر سنوات، تحت إشراف وإدارة الأمم المتحدة.(د) تشكيل لجنة أفغانية تكون مهمتها صياغة دستور جديد للبلاد يضم من المواد ما يجعلها دولة أقل مركزية، تتمتع فيها المناطق والأقليات العرقية بدرجة أكبر من الاستقلال الذاتي. إن ثروة أفغانستان المعدنية المكتشفة حديثا، واحتياطاتها المدهشة من النحاس، والذهب، والليثيوم، وخام الحديد يجب أن تكون مفتاحا للاستقرار. وهذا البلد الذي تعرض للانتهاك كثيرا، وعانى طويلا ، يمكن تغيير حاله من النقيض إلى النقيض في بحر جيل. وفي أحوال السلام والرخاء، سوف تتلاشى مشكلة "القاعدة" من تلقاء نفسها.