وصل إلى "واشنطن دي سي" مؤخراًُ وفد رفيع المستوى من كبار المستشارين السياسيين الأتراك، بهدف الحوار مع إدارة أوباما والكونجرس والأوساط السياسية الأميركية. وتعد هذه خطوة ضمن الجهود التي تبذلها تركيا لحل المشاكل الراهنة في علاقاتها بواشنطن، والتي نجمت عن التطورات والأحداث التي شهدتها الأسابيع القليلة الماضية. ويجب القول إن هناك مسألتين أساسيتين سيطرتا على الحوار الدائر بين الوفد التركي والمسؤولين والساسة الأميركيين. أولاهما ردة الفعل التركية إزاء الهجوم الإسرائيلي على سفينة "مرمرة"، وهي إحدى سفن قافلة الحرية التي كانت في طريقها إلى مواطني قطاع غزة المحاصرين، وهي تحمل بالمؤن والمساعدات الإنسانية إليهم، في الحادي والثلاثين من مايو المنصرم. وقد نجم الاعتداء الإسرائيلي على السفينة عن مصرع تسعة من المواطنين الأتراك الذين كانوا على متنها، مما أثار غضباً عالمياً على إسرائيل وأفعالها العدوانية. وفي ردة فعلها على ذلك الاعتداء، طالبت تركيا إسرائيل بأمرين تمسكت بهما اسطنبول أشد التمسك: أولهما أن تقدم لها إسرائيل اعتذاراً رسمياً عما اقترفته، وثانيهما أن توافق على إجراء تحقيق دولي مستقل حول الملابسات التي أدت إلى مصرع المواطنين الأتراك التسعة. من ناحيتها رفضت الحكومة الإسرائيلية تقديم أي اعتذار لاسطنبول، بيد أنها وافقت على إجراء تحقيق من جانبها هي حول ما حدث. وأكدت إسرائيل وجود مراقبين دوليين في التحقيق، على أن تتولى هي إدارته. وفيما يتصل بالاعتذار، فقد حاججت إسرائيل بأن تقديم أي اعتذار لاسطنبول في الوقت الحالي سوف يكون بمثابة خطوة سابقة لأوانها قبل اكتمال التحقيق ومعرفة ما حدث بالضبط، مع تحديد المسؤولية عنه. وهكذا ظل هذا المطلب التركي عالقاً ولا يزال النزاع عليه بين إسرائيل وتركيا قائماً. في غضون ذلك تسربت أنباء عن اعتزام طهران إرسال سفينة للمساعدات الإنسانية لسكان القطاع، في مسعى جديد منها لكسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل على مواطني القطاع. ومن المؤكد أن القوات الإسرائيلية ستعترض طريق أي سفينة إيرانية من هذا النوع، لكونها ترى فيه استفزازاً مباشراً من جانب طهران. وفيما لو وقعت أحداث عنف جديدة في هذا السياق، وهو أمر ليس مستبعداً، فمن شأنه أن يشعل نيران مواجهات جديدة على نطاق المنطقة بأسرها، بكل ما تعنيه هذه المواجهات من خطورة إقليمية كبيرة. أما المسألة الثانية التي سيطرت على الحوار الجاري في واشنطن بين المسؤولين والساسة الأميركيين وأعضاء الوفد التركي، فتتلخص في تصويت اسطنبول ضد قرار مجلس الأمن الدولي الأخير بشأن فرض عقوبات إضافية على طهران. والحقيقة أن أشد ما أثار استياء واشنطن من تصويت اسطنبول بالاعتراض على القرار، انضمام كل من روسيا والصين إلى موقف الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا المؤيد لمعاقبة طهران. ورغم معارضتهما للقرار المذكور، فمن المؤكد أن تلتزم تركيا والبرازيل بالقرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي، بصفتهما دولتين مسؤولتين وعضوين في الأمم المتحدة، تراعيان القانون الدولي. بيد أن تركيا لا تزال تتمسك بحجتها القائلة إن الصفقة التي أبرمت بينها والبرازيل وطهران ووقعت عليها حكومات الدول الثلاث، تطالب طهران بترحيل ما لا يقل عن نصف اليورانيوم منخفض التخصيب الذي حصلت عليه طهران إلى خارج حدودها. وعليه فإن هذه الصفقة تعد أفضل ما توصل إليه أي من أعضاء الأسرة الدولية مع طهران، خاصة وأنها وقعت على الصفقة المذكورة. ومن جانبها تؤكد اسطنبول معارضتها القوية لحصول إيران على الأسلحة النووية. غير أنه لابد من مراعاة الواقعية، ولابد من التفاوض مع طهران بغية احتواء طموحاتها النووية. ويتطلب كل ذلك التوصل إلى صفقة متفق عليها من جميع الأطراف الساعية لحل المعضلة. وفي كل ذلك ما يثير سؤالاً جدياً عن طموحات تركيا النهائية في منطقة الشرق الأوسط. وفي واشنطن، هناك وجهة نظر شائعة ترى أن تركيا قد بدأت النأي بنفسها عن علاقاتها بكل من حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي، في ذات الوقت الذي تكثف فيه نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. وهناك من يعبر عن رأي أكثر وضوحاً وصراحة مفاده أن تركيا تعتبر نموذجاً ناجحاً للديمقراطية في المنطقة وذات اقتصاد وطني قوي، وأنه يحق لها أن تؤدي دوراًً إقليمياً يليق بوزنها. ومما لا ريب فيه أن تركيا بوصفها دولة ديمقراطية قوية، حتى وإن اختلفت بعض سياساتها كثيراً عن تلك التي تتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي -خاصة فيما يتعلق بإيران، في وسعها أن تكون صمام أمان ضد طموحات الهيمنة الإقليمية الإيرانية على المدى البعيد. وفي وسع المرء أن يشير إلى حسن العلاقات بين تركيا والعراق، وكذلك إلى وجودها العسكري الحالي في أفغانستان ضمن قوات الناتو، على أنها مؤشرات إيجابية تحسب لصالحها. غير أن الآراء الأكثر حدة في انتقادها لتركيا، تصدر عن إسرائيل وحلفائها في واشنطن. وتتلخص هذه الآراء في تزايد تحالف حكومة أردوغان مع القوى الراديكالية المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط، في ذات الوقت الذي تنأى فيه عن إسرائيل التي كانت تعد أقوى حلفائها في المنطقة على الإطلاق. والحقيقة أن تركيا مقدمة على موسم انتخابي جديد، وأن الشارع التركي يبدي عداءً واسعاً لإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأميركية، وهي حقيقة يصعب تغييرها في الوقت الحالي على أية حال. ومع ذلك فقد كان واضحاً من جهود الوفد التركي إلى واشنطن، قلقه على حدوث قطيعة تامة بين بلاده وأميركا. بل أبدى الوفد حرصاً على أن يقدم بلاده بصورة القوة الدولية المسؤولة، وليس مجرد دولة منحرفة عن مسارها ومؤيدة للجماعات الإسلامية المتطرفة كما يعتقد البعض. وهناك من أعضاء الوفد التركي من يحاجج بأن اتساع شعبية تركيا مؤخراً في أوساط الفلسطينيين، يتم على حساب إيران. وفي نظرهم أن هذا تطوراً إيجابياً يجب تشجيعه والوقوف إلى جانبه بدلاً من معاداته.