يقول الشاعر العربي أدونيس: "للسياسة الإسرائيليّة معجمٌ خاصّ، لغويّاً، وفكريّاً، وأخلاقيّاً. من يخالف قواعده ومقاييسه، فهو مخطئٌ سلفاً، وإن كان مُصيباً. لا مكان للحقيقة خارجَ هذا المعجم. ولا مكانَ لِلغّة"! هذا، رغما عن أن الدولة الصهيونية -بشهادات عالمية متنامية- باتت "دولة مجنونة"، "دولة قراصنة"، "دولة منزوعة الشرعية"، "دولة انتحارية"، "تجهل التاريخ"، "وحشية"، "تحتقر الإنسانية"، "تستسهل القتل"، وذلك ضمن تسميات عديدة أخرى باتت تطلق على إسرائيل مع انتهاء الحرب الباردة. فمنذ تراجعت الحاجة الأميركية الأوروبية للدولة الصهيونية، بدأت الانتقادات الدولية تتزايد مع استمرار الجنون الإسرائيلي: حركة استعمار (استيطان) مرفوضة عالميا، عدوان همجي على قطاع غزة تابعه العالم على شاشات التلفاز، احتلال صهيوني مستمر في مقارفاته التي اقتربت من تأسيس صيغة خاصة للآبارتايد الإسرائيلي، تزوير جوازات سفر دول صديقة، موقف دولي رافض لسياستها النووية السرية، وأخيراً وليس آخراً الاعتداء على نشطاء دوليين شاركوا في "أسطول الحرية". يقول الكاتب الإسرائيلي "نحميا شترسلر" في مقال بعنوان "دولة تنتحر" ما يلي: "إذا كان أحد ما يشعر بأن وضعنا الدولي آخذ في التردي، وأحد آخر يعتقد بأننا نتصرف مثل دولة انتحارية، فليفكرا مرة أخرى. الأصدقاء الطيبون من يوم أمس يرون فينا عبئاً اليوم. ليس فقط رئيس وزراء تركيا، الذي وصف العملية بأنها إرهاب دولة، بل وأيضاً ممثلو البرازيل، النمسا، والمكسيك... الذين طالبوا إسرائيل برفع الحصار عن غزة. وكذلك وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، وأمين عام الأمم المتحدة، والرئيس الفرنسي الذي شجب الهجوم عديم التوازن. كما أن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، لم تبخل في أقوالها الانتقادية، وكذا أيضاً بالنسبة للرئيس باراك أوباما الذي أوصى بإجراء تحقيق دولي ذي مصداقية وشفافية، إذن هو أيضاً لا يثق بنتنياهو". لقد تغيرت النظرة القديمة، بل قل "القبول" الغربي الذي طالما اعتبر إسرائيل كياناً "استثنائياً" في كل شيء، كونه "وريثاً" لضحايا ما يسمى "الهولوكوست"، يواجه "أخطاراً كبرى" محيطة به من دول تفوقه حجماً وتريد القضاء عليه، لذا فمن "حقه" أن يخرج على القوانين والأعراف، ليس مع الأعداء فحسب، بل حتى مع الأصدقاء والحلفاء أيضاً، إذا اقتضت الظروف! وواقع الحال أن العالم بات الآن يقترب من أن يرى إسرائيل على حقيقتها: دولة تعيش الأرق والخوف من المستقبل بحكم طبيعتها، محكومة بعقائد دينية وأيديولجية صهيونية فاشية أضحت هي المحرك الأساس لها. فقبل نصف قرن، اعترف المفكر اليهودي الأميركي "مارتن بوبر" بإخفاق التنوير اليهودي أمام الحركة الصهيونية، وبوقوعه في أسر العنصرية، قائلاً: "لقد برهن هتلر على أن مسار التاريخ لا يوازي مسار العقل وإنما مسار القوة، وأنه عندما يكون هناك شعب على قدر من القوة فإنه يستطيع أن يقتل من دون عقاب، وهذه هي الحال التي كان علينا أن نحاربها. لقد كنا نأمل في أن ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل شعب إلى صنم معبود، لكننا أخفقنا". وفي مقال بعنوان "الأغبياء السبعة"، يقول "يوسي ساريد" ما نصه: "سبعة وزراء، وليس سبع حاملات طائرات، وليس سبع بارجات، بالإجمال سبعة قوارب بائسة، على متنها بضع مئات من الأشخاص، ليسوا جميعاً من أحبة أمم العالم، لكنهم ليسوا إرهابيين ضالعين. وفجأة، دون سابق إنذار، تصبح سمكة صغيرة جيشاً عظيماً يوقع على إسرائيل ضرراً مثلما فعل الأسطول الفرنسي الإسباني في حينه ببريطانيا"! ويضيف: "مقلق التفكير أيضاً في جيشنا الإسرائيلي، الذي يكبو كلما جاءه الأمر بأن يسير. وحدات مختارة، مدربة ومهنية، يفترض بها معرفة كيف تسيطر على سفينة دون أن تغرق دولة! ماذا حصل لنا، وكيف فقدنا ثقتنا بأنفسنا وأهدافنا، فأصحبنا نضع ثقتنا بالوسائل التي تخفق في كل مناسبة. بسيط جداً. هكذا سيواصل السبعة عادتهم، سيعودون إلى طبيعتهم في كل فرصة، سيعرضوننا للخطر أكثر من أي قارب أو سفينة، إذ بالجنون يتصرفون. ونحن سنواصل الخوف من زعمائنا وكأننا لا يكفينا أحمدي نجاد"! ومع تعاظم خوف إسرائيل من التراجع في مدى مشروعيتها، ومن استثنائيتها، أطلقت الدولة الصهيونية مبادرات للمعالجة، مثل إعلانها تخفيف الحصار "جذرياً" عن قطاع غزة. كما قدم تقرير مؤسسة "روت" الإسرائيلية (ذات الميول المتشددة) ما اعتبرته نصائح بارزة: "أولا: اعتبار أزمة التراجع في شرعية إسرائيل معضلة وجودية. ثانياً: استنفار الشتات الإسرائيلي والمنظمات الإسرائيلية غير الحكومية من أجل تكوين شبكة عالمية لمساندة إسرائيل، ولمواجهة الشبكة العالمية التي تعمل على إسقاط الشرعية عنها، وتوجيه هذه الشبكة لكي تتحرك على محورين معاً: واحد يمس مصالح الشعوب وقادتها، والثاني يخاطب عقول ومشاعر الشعوب والرأي العام العالمي. ثالثاٍ: محاربة شبكات "نزع الشرعية" عن إسرائيل في أهم عواصمها؛ مثل لندن وباريس وتورونتو ومدريد والسعي، لعزلها عن الجماعات المؤيدة لها التي تزودها بالمتطوعين والمال والمعلومات. رابعاً: تخليص إسرائيل من الصفات السلبية "التي أُلصقت بها" مثل النزوع العدواني والاستخفاف بالقانون الدولي، وإضفاء الصفات الإيجابية التي تحصنها ضد محاولات نزع الشرعية، مع دمغ الذين يسعون إلى تحقيق هذه الغاية بالصفات السلبية مثل اللاسامية". بل نقلت صحيفة "هآرتس" عن وزير الحرب وزعيم حزب "العمل"، باراك، أنه في خطوة تهدف إلى الهروب للأمام، يضغط على نتنياهو لتقديم خطة سياسية للتسوية مع الفلسطينيين لمواجهة عزل إسرائيل دولياً، باعتبار أن "السبيل الوحيد هو طرح خطة سياسية للتسوية مع الفلسطينيين تعالج بشكل خاص القضايا الجوهرية، وأنه يجب اتخاذ قرارات والقيام بخطوات سياسية حقيقية". لكن، رغم ذلك كله، يأتي تدهور علاقات إسرائيل بالعالم الخارجي نتاج مقارفاتها، وبفضل ازدياد الوعي الدولي وتحول العالم إلى قرية بحيث بات بإمكان أي مواطن عالمي أن يتابع كل الأحداث. لكن ما عسى المرء أن يتوقع سوى استمرار جنون هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي لا تزال تصر على عدم رؤية قباحتها وقباحة سياساتها إذ نراها تتوغل بعيداً في العقلية العدوانية العنصرية ذاتها. وهذا ما أكدته تصريحات نتنياهو المتلاحقة، ناهيك عن أركان حكومته؛ مثل ليبرمان وأمثاله. بل إن هذا هو موقف الزعيم "العمالي"(!) "المعتدل"(!) الذي يعتقد -فيما يبدو- أن الثلج يمكن أن يغطي القاذورات إلى الأبد، حيث نقلت "هآرتس" عن باراك قوله: "مبادرتي ستؤدي حتماً إلى اختراق العزلة التي تعيشها إسرائيل، وتعطي شرعية لأي نشاط عسكري تقوم به إسرائيل لمنع أي أساطيل سفن تأتي لغزة وتحقيقات دولية، وأنه كانت هناك دوماً حكومات في إسرائيل قادرة على العمل بكل حرية، من الناحية العسكرية، لأنها قامت بالمبادرة لخطوات سياسية"!