ثمة أزمة تحدّث عنها بعض المفكرين، لا تكمن في المجتمع والقيم والهوية والاقتصاد والتوجهات السياسية، بل تكمن في كينونة الغرب ذاتها وبالأخص في قوة الحضارة الغربية وبقائها. وقد صدرت خلال الثلاثة عقود الماضية العديد من الدراسات التي تتحدث عن هذه الإشكالية وبخاصة التآكل الذي أخذ يسري في جسد الحضارة الغربية والتهديد الفادح الذي يمثله؛ فثمة كثيرون اليوم باتوا يشعرون أن التفوق الغربي الذي تحقق على مدى قرون أخذ يتجه نحو حافة الانهيار، وهو الخطر الذي تكشفه التشخيصات التاريخية والاجتماعية والنفسية والسياسية؛ وأهمها ما أشار إليه "ريتشارد كوك" و"كريس سميث" في كتابهما "انتحار الغرب"، ومن مؤشراته: تزايد علمنة المجتمع الغربي، وفقدان الإيمان بالله، والانقسام المتزايد داخل المجتمع المسيحي. كما أن انحسار التدين ترافق مع ظواهر العدمية والاكتئاب والجريمة والانتحار. ثم هناك النمو الديمغرافي السالب، والتراجع الاقتصادي الذي يترافق مع نفاد الموارد الطبيعية المحدودة أصلا، والأضرار البيئية المفاجئة خاصة مع وجود ترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل. إلا أن الخطر الأكبر الذي يهدد بعض الدول الغربية حالياً يأتي من الليبرالية، وهي المحرك الأساسي الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه من تقدم ورفاهية وإبداع وديمقراطية وحرية. ولعل المظهر السلبي الذي أصاب هذه الأيديولوجية المحركة يعود إلى دورها في تمزيق التقاليد، وتحديها للمعتقدات والهويات الراسخة، ولأنماط الفكر المستقر، وتقويض الاستقرار النفسي والاجتماعي، ودورها في الإضرار ببيئة كوكب الأرض، وفي السياسات التي أت إلى إشعال الحروب تحت عناوين وشعارات مختلفة، وأخيراً إعادة إحياء الاستعمار الإمبراطوري. والخطأ في هذا النمط من التطور، كما يتصوره "كوك" و"سميث" هو نزوع العلم الغربي صفة الإنسانية عن الإنسان وتحويله إلى أداة، وبذلك تحول كثير من انتصارات العلم إلى أعباء على حياة الإنسان والبيئة. فقد تعرض ماء وهواء الكوكب اللتسمم، كما يواجه النظام البيئي عامة خطر الخراب والانهيار، ليس فقط بسبب الصناعات الضخمة، ولكن أيضاً بسبب الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية التي تقتل ملايين البشر، ما جعل الكثير من علماء الغرب ومفكريه يرفضون هذا التوجه "غير الأخلاقي" للعلم والعلماء الذين باعوا أخلاقياتهم وشاركوا في بناء ترسانات الدمار الشامل. وتكفي الإشارة هنا إلى ما قاله أينشتاين بعد إلقاء القنبلة الذرية على اليابان: "لو كنت أعرف أنهم سيعملون هذا لعملت صانع أحذية". والسؤال المهم هنا هو: كيف يمكن أن نتعامل نحن العرب مع المخاطر والآثار المنتظرة التي تهدد المسار الحالي للحضارة الغربية، خاصة بعد أن أصبحنا ندور في فلكها وأصبحت القوة الناعمة هي الحكم في هذه العلاقة، حيث أدت إلى إدماجنا من خلال وسائل الجذب المتحركة، مما كان له نتائجه السريعة على الثقافة والعلم واللغة والتربية والهوية... العربية. إنها الاستراتيجية التي يبدو أن آثارها المستقبلية تمتد إلى مجالات القيم والهوية، أي إلى صلب الحضارة، حيث يصبح الآخر قادراً على توجيه عملية تآكل القيم الجوهرية للأمة وعلى النواة الصلبة للعقل العربي خاصة، والعقل الناقد لتلك الاستراتيجية عامة، حيث لا يقتصر الأمر على حضارة العرب والمسلمين فقط، وذلك بدليل ما حدث من تفكك للاتحاد السوفييتي، وهو تفكك يرجع غالبية المحللين أسبابه إلى تشرب القادة السوفييت لثقافة وقيم الغرب مما جعلهم يتوقفون عن الإيمان بقيمهم القومية وينغمسون في استراتيجية الآخر المضادة، وعياً منهم أو بدون وعي! وحسب كتاب "انتحار الغرب" فإنه لو لم يتم إغراء قادة السوفييت، وعلى وجه الخصوص جورباتشوف، بالقيم الغربية، لما تفكك الاتحاد السوفييتي، لذلك فإنه على المفكرين والعلماء العرب دور كبير في العمل على التنبيه إلى الأخطار وإيجاد الموانع والبدائل وإعادة بناء الارتباطات الناعمة والخشنة على أسس مغايرة.