نشرت مؤخراً الصحيفة الإيطالية المعروفة «كورييريه ديلا سيرا» مقالاً يعالج طبيعة الأبحاث العلمية، ومصادر المعلومات فيها وقابليتها للخطأ. وقد اعتبر كاتب المقال المذكور، وهو "أنجيلو بانيبيانكو"، أنّ العلم بطبيعته مناهض للعقيدة الراسخة لأنه ينشأ من التجارب ومن الأخطاء ويعتمد على مبدأ قابليته للخطأ، وهو المبدأ القائل إنّ معرفة البشر ليست أبداً مطلقة وإنما هي في حالة تغيّر دائم ومستمر. وأشار "بانيبيانكو" في هذا الخصوص إلى أنّ العلم يصبح عقيدة راسخة فقط في إطار بعض التبسيطات الصحافية التي تحوّل الفرضيات إلى «حقائق» قائمة وثابتة. لكن، قد يصبح العلم عقيدة راسخة عندما يفشل في دحض نموذج مقبول لثقافة معينة أو عصر بذاته، ويعجز عن التشكيك المنهجي في ذلك النموذج. وسواء أكانت أفكار العلماء قائمة على آراء داروين أو أينشتاين أو كوبرنيكوس... فإنهم على العموم يتبعون نموذجاً محدداً بهدف التخلص من النظريات التي تبرز خارج مدارهم؛ ومن ذلك مثلا النظرية القائلة بأن الشمس تدور حول الأرض. لكن كيف يمكننا التوفيق بين اعتماد المجتمع العلمي على النماذج وبين الواقع القائل بأن الابتكار الحقيقي يحصل عندما ينجح المرء في تجاوز الأفكار المسيطرة والتشكيك فيها؟ ألا يعتبر سلوك العلم سلوكاً عقائدياً عندما يتمسك بنموذج مفضّل بهدف الدفاع عن قوته ووصف كلّ الذين يتحدون سلطته بالمهرطقين؟ يعتبر هذا السؤال مهمّاً. هل يجب دوماً الدفاع عن النماذج أو تحديها؟ إن الثقافة، وهي نظام من التقاليد والمعتقدات الموروثة من قبل مجموعة معينة، ليست عبارة عن تراكم بيانات فحسب، بل هي نتيجة عملية انتخاب وتصفية متواصلة لهذه البيانات. فأيّ ثقافة قادرة على التخلص من كلّ ما لا تجده مفيداً أو أساسياً، مع العلم أنّ تاريخ الحضارة مبني على المعلومات التي تمّ تخطيها ونسيانها. تطرّق "خورخي لويس بورغيس" في قصته القصيرة الصادرة في عام 1942، وهي بعنوان «فونيس إل ميموريوسو»، إلى شخص لديه القدرة على تذكر كلّ شيء: كل ورقة على كل شجرة، وكل نسمة هواء، وكل نكهة، وكل جملة، وكل كلمة. ولهذا السبب فإن فونيس يبدو أحمقاً ورجلاً مقيّداً بسبب عدم قدرته على انتقاء بعض الأمور والتخلص من الأخرى. فنحن نعتمد على منطقة ما دون الوعي حتى ننسى. إن كنا نواجه مشكلة مثلاً، بوسعنا أن نزور طبيباً نفسياً لاستعادة كافة الذكريات التي تخلصنا منها عن طريق الخطأ. ولحسن الحظ، فنحن نتخلص من كافة الأمور الأخرى الباقية. فالروح هي نتيجة استمرار هذه الذاكرة الانتقائية. وإن كنّا جميعاً مثل فونيس لكنّا مجردون من الإحساس. تعمل الثقافة بالطريقة نفسها. فتتأتى نماذجها المؤلفة من الأمور التي احتفظنا، بها ومن المحظورات التي تخلينا عنها من عملية تشارك هذه المعارف الشخصية. ونحن نحيي النقاشات حول هذه المعارف الجماعية. وبهدف الحصول على نقاش شامل، يجب أن نبدأ من النماذج الموجودة لنبيّن أنها لم تعد صالحة. فلو لم يتمّ رفض النموذج الفلكي القديم كما وضعه بطليموس، والذي كان مسيطراً في عهده، لما تمكنا من فهم حجة كوبرنيكوس في نظريته القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس. واليوم، تعتبر شبكة الإنترنت شبيهة بوضع فونيس. فهي تحتوي على معلومات غير مصفاة ولا منظّمة، كما أنها تتيح أمام المرء إمكانية تكوين معارفه الخاصة أو نظم عقائده الشخصية. وفي هذا الإطار، فإنه بوسع أي فرد أن يقول بأن الماء مؤلف من الهيدروجين والأوكسجين، وبأن الشمس تدور حول الأرض. نظرياً، من الممكن أن نعيش في يوم من الأيام في عالم يضمّ سبعة بليون نموذج مختلف، وقد يقوم المجتمع على حوار متصدّع بين سبعة بليون شخص يتكلمون لغة مختلفة. لكن لحسن الحظ فإن ذلك "الإمكان" يبقى مجرّد فرضية، إلا أنّ الحجة بحدّ ذاتها ممكنة لاسيما أن المجتمع العلمي يعتمد على الأفكار المشتركة. والجدير ذكره هنا أنه بهدف إسقاط نموذج معيّن يجب أن يملك الفرد نموذجاً آخر. قد يؤدي الدفاع عن هذه النماذج إلى إيجاد عقائد راسخة، إلا أن تطوّر المعرفة الجديدة يقوم على هذا التناقض بالذات وتثمينه. وبهدف تفادي الوصول إلى خلاصات متهوّرة، أوافق على مقولة العالم الذي ذكره بانيبيانكو في مقاله، وهي المقولة الآتية: «لا أعرف، إنها ظاهرة معقّدة، وينبغي عليّ دراستها».