الديمقراطية في اصطلاحها العام ليست وليدة اليوم، إذ لها نسب فكري يمتد لأكثر من ألفين وخمسمائة عام، وقد اتخذت دلالات متنوعة تبعاً للسياقات التاريخية التي ظهرت فيها. إن مسيرة الديمقراطية تتقدم من خلال التناقض بين مظهريها، كمثل أعلى وكحقيقة واقعة. وقضيتها ليست الواقعية فحسب، وإنما أيضاً ما ينبغي أن يكون عليه عالم المساواة مستقبلاً. فهي لا تركن إلى ما هو قائم أصلاً، وبهذا أثبتت قدرتها على تخطي تناقضاتها ومثالبها السياسية أكثر من أي نظام سياسي آخر. حققت الديمقراطية في النصف الثاني من القرن العشرين حضوراً طاغياً، وفرضت ذاتها في كل مكان بصفتها الشكل السياسي الأكثر حداثة لحكم المجتمعات ولتنظيم الحياة العصرية. وواقع الحال أنه ليس ثمة مبدأ مركزي وحيد يختزل الديمقراطية، كما أنه ليست هنالك ديمقراطية منجزة تماماً يمكن عدّها النموذج الأشمل والأكمل لشكل الحكم أو لممارسته. ويشير الباحثون إلى أنماط رئيسة تحققت تاريخياً في دول مثل المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وفرنسا. وهي على التوالي: الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الدستورية المساواتية، والديمقراطية التمثيلية أو التنازعية. ويمكن الملاحظة أن الأخيرة، وهي الأحدث لجهة تحققها التاريخي، تقوم على الإقرار بتعددية المصالح الاجتماعية والتوفيق بينها وبين المساواة القانونية للجميع. وتمكّن الفرد من المشاركة في الحكم، ومن الإسهام في تقرير خياراته السياسية عبر ضمان حقوقه الأساسية. بهذا المعنى فإن هذا المفهوم الأخير للديمقراطية لا يقوم على إخضاع السلطة لحرية طبيعية مفترضة أصلاً في الإنسان فحسب، أو تقييدها، وإنما أيضاً لاستخدام السلطة كوسيلة لخلق حرية جديدة وحقيقية. وهذا هو أحد أوجه الاختلاف بينها وبين الليبرالية. وينوّه "آلان تورين" بهذا الخصوص إلى أنه ليست ثمة ديمقراطية ليست ليبرالية، وإن كانت هنالك ليبراليات ليست ديمقراطية. ذلك أن الليبرالية تضحي بكل شيء في سبيل بعد واحد من أبعاد الديمقراطية، إنه تحديد السلطة. والديمقراطية اليوم لا تعني إزالة العوائق أمام الأفراد وتحريرهم من القيود فقط، وإنما تعدّهم أيضاً ليكونوا صانعي تاريخهم، فاعلين ومساهمين في تقرير خياراتهم السياسية وإبداعها. لذا لا ديمقراطية دون حرية الاختيار، ودون تعددية سياسية تنافسية، ودون تواصل سياسيّ حرّ بين المختلفين. إن العديد من الأنظمة والشعوب صارت تأخذ اليوم مُثل التعددية والديمقراطية السياسية على محمل الجدّ، وباتت تراهن من خلالها على حياة إنسانية أرقى. الأطروحة الشهيرة التي هيمنت على النظم السياسية في العالم النامي، كانت تقول: إن المصلحة الوطنية تكمن في التماهي بين الدولة والمجتمع وبين حزب وحيد يمنح نفسه احتكار الشرعية السياسية والقانونية. والواقع أن هذه النظم عمدت انطلاقا من التصور إلى تقويض الحياة السياسية الحزبية داخلياً، وقلًصت الحراك الاجتماعي المدني إلى حده الأدنى. إن أحد أبرز معايير ضعف هذه الدول ومجتمعاتها، يتمثّل في أزمة المشاركة السياسية. وكان ذلك سبباً في إحساس الكثير من أفراد تلك المجتمعات بأنهم هامشيون ومنبوذون في دول ومجتمعات لا يشعرون بأنهم يساهمون فيها. كل ذلك دفعهم إلى الشعور المضاد للانتماء أي العزلة والاغتراب الاجتماعي، ومن ثم إلى التطرف السياسي أو الفوضى والعنف. وهنا تكمن إحدى البؤر المولّدة للعنف والتطرف الأصولي، كما نلاحظ، في عالمنا العربي. ------ سربست نبي كاتب سوري ------- ينشر بترتيب خاص مع مشروع "منبر الحرية"