كل شيء في العالم الذي نعيشه الآن إلى تراجع، الغريب أن ذلك يحدث رغم التقدم العلمي والتكنولوجي. ولا أدري إذا كان ثمة ترابط بين هذا التقدم وذاك التراجع، لكن المنطق يقول بأن التقدم العلمي يفترض أن يقود إلى تقدم في كل المجالات الأخرى. السياسة إلى تراجع، وربما لم يعد ثمة كبار في العالم يمتلكون رؤيا أو مشروعاً أو فكراً أو برنامجاً مستقبلياً. وإذا وجد بينهم من لديه شيء من هذا القبيل، فهو لا يمتلك الخبرة والمعرفة والقدرة والحنكة والشجاعة على الإقدام أو طرح أفكاره. السياسة حرفة فيها كل هذه العناصر، ولذلك نشهد هذا التخبط في العالم. أميركا توهمت أنها تفردّت، فتبين لها أنها تكاد تكون مستفردة. وليس لديها كبير اليوم لا في السياسة ولا في الدبلوماسية ولا في المال وقد حلّ فيها ما حلّ سياسياً وأمنياً ومالياً واقتصادياً. تجذبك مدنها ورحابتها وحياتها لكن رجلاً سياسياً بارزاً فيها لا يجذبك ليقال عنه رجل تاريخي مثلاً! توهمت أنها قادرة على فرض نظامها أو حل مشاكل العالم حسب وصفاتها فإذا بها تتخبط هي في حل مشاكلها، وتعترف بأن وصفاتها غير مفيدة، وبالتالي تحتاج إلى وصفات الآخرين! هذا هو الاتحاد السوفييتي بثورته الكبرى وتجربته الغنية وقياداته الفكرية والعلمية والسياسية والعسكرية قد أصابه الانهيار، بعد أن كان قوة عظمى عالمية، ولم يترك كباراً وراءه. وهذه هي أوروبا، الحرية والديمقراطية والرجال الكبار، الرموز، المحررون، المفكرون، أصحاب الرؤى والمشاريع؛ هذه هي أوروبا الموحدة في نهايات القرن الماضي، تعيش حالة تراجع كبير. عملتها الموحدة مهددة، واقتصادات دول أساسية فيها تكاد تنهار أو تشهد خلال الآونة الأخيرة حالة ضياع لا مثيل لها. وشعوب تهدد بالتراجع عن الوحدة، وعن العملة الأوروبية الموحدة، وتعبّر عن عدم رضاها وقبولها بأن تدفع هي ضريبة تمويل دول وشعوب أخرى تحت عنوان الوحدة، وأوروبا التي أرادت بوحدتها أن تكون قوة اقتصادية وسياسية تعاني أزمات وتحسر الكثير من عوامل قوتها. نحن نعيش في حال من الفوضى التي تنذر بخطر كبير انطلاقاً من انفلات مؤسسات مالية وشركات كبرى سرعان ما راحت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، إضافة إلى موجات التطرف، والمتغيرات الديموغرافية ذات الأبعاد الدينية وما يترتب عليها في عدد من المجتمعات الغربية التي عاد بعضها وبقيادة بعض الحكام إلى اعتماد نهج عنصري لا يتلاءم مع واقع العصر وتطوراته من النواحي الإنسانية. وكل ذلك يدور في ظل صراع وسباق على التسلّح في الفضاء وعلى الأرض وفي أعماق البحار، وفي ظل متغيرات مناخية خطيرة تهدّد بزوال دول صغيرة وبنتائج وكوارث في مواقع كثيرة من العالم سوف تأخذ في طريقها الملايين من البشر الفقراء والمعوزين، كما يصيب دولاً تعتبر نامية والقلق في كل مكان والخبراء والعلماء والباحثون ينبهون إلى الانعكاسات الهائلة لمثل هذه المتغيرات ولا تجد سياسياً بمستوى هذه التحديات، أو رمزاً يستطيع أن يقول إنه صاحب رؤيا، وإنه يعطي الأولوية الحقيقية، وبشكل شامل ومتكامل في سياساته وقراءاته لهذه المخاطر. قد تجد محاولات من هنا وهناك، ولكن لا تجد سياسات كاملة. وقد تجد رؤساء ولكن لا تجد زعماء كباراً يتمتعون بالصدقية أو قادرين على بث روح الاطمئنان. هذه الحالة تنعكس بطبيعة الحال على مجالات الحياة الأخرى، وأعتقد أن متابعي مباريات كأس العالم لكرة القدم المقامة حالياً في جنوب أفريقيا يقرّون بذلك. لقد صدم "الكبار" في "مونديال 2010” المتابعين ومحبّي وعشاق كرة القدم، اهتزت الفرق الكبرى، لم يكن أداؤها وعطاؤها بمستوى ما عرفت به، غير أنه في النهاية سيكون ثمة رابح. ولكن الرابح بين الصغار لا يكون كبيراً، والرابح على ضعفاء نسبياً لا يكون كبيراً. والربح لأن الربح يجب أن يكون في النهاية ليس هو الربح المقدر والمستحق الذي يتطلع إليه اللاعبون والمشاهدون وعشاق كرة القدم أو أي لعبة أخرى. وتشعر وكأنه لم يعد ثمة جدية وتعب على الذات. لم يعد ثمة فن وإبداع. لم يعد ثمة عطاء كما كان في السابق. مفاجأت تلو مفاجأت في مونديال هذا العام. وخيبات تلو خيبات والنتيجة واحدة: التراجع. نعم حالة التراجع عامة. سياسة واقتصاداً ورياضة وثقافة وموسيقى وفكراً وتنظيماً وتربية و... وهي حالة مقلقة بالتأكيد. يبقى في هذا السياق أن نشير ومع التقدير الكبير لمشاعر عشاق الرياضة ومؤيدي الفرق العالمية المشاركة في "المونديال"، إلى ما يرافق "المونديال" من مظاهر. لو احتسبنا ثمن الأعلام المرفوعة ومصروف المفرقعات ابتهاجاً لانتصار هذا الفريق أو ذاك، ومصروف التنقلات في المواكب الجوالة، وكلفة التلوث والصخب، والنكايات وأحياناً المشاكل لأدركنا أيضاً أن ما يجري لا يتناسب مع واقعنا الاقتصادي والمالي، ونستمر دائماً على النهج ذاته. المشكلة عامة والمسائل مترابطة... والله يستر .