في عام 1965 نشر المؤرخ "أرثير شليزنجر" كتابه عن كيندي الذي سيصبح فيما بعد من المراجع الأساسية حول الرئيس الأسبق، وفي ذلك الكتاب الذي عنونه صاحبه "ألف يوم" يحكي فيه المؤرخ عن انتصارات كيندي ومآسيه خلال فترته الوجيزة في الرئاسة، لكن الكتاب في الحقيقة كان استكشافاً لشخصية الرئيس التي لخصها المؤلف في كلمة واحدة: هادئ. فصفة الهدوء هي انعكاس لتعبير عاطفي معين يركز على الانفصال ورباطة الجأش بدل استعراض المشاعر والسعي إلى إظهارها. ولا يعني ذلك أن الشخص الهادئ عديم الإحساس، بل فقط لا يتعمد إبراز مشاعره على الملأ، مفضلا رسم خط واضح بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي. ويواصل "شليزنجر" وصفه للرئيس كيندي: "لقد كان أسلوبه نصراً ناضل من أجله كي يستحقه، إنه انتصار لإنسان شجاع ومتزن على عذابات الحياة المبرحة، لذا كان هدوؤه بمثابة الحدود التي رسمها لنفسه". والواقع أني استحضر هذه الكلمات وأنا أقرأ الهجوم الأخير على الرئيس أوباما، والذي -حسب الانتقادات- لم يُبد ما يكفي من المشاعر خلال كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك. ويبدو أن المحللين من جميع المشارب السياسية في أميركا يوجهون سهامهم لأوباما بسبب الهدوء الذي أبداه طيلة فترة الأزمة، ولننظر مثلا إلى تغطية "نيويورك تايمز" و"فوكس نيوز" اللتين وإن كانتا تختلفان في العديد من الأمور الأخرى السياسية وغيرها، فإنه عندما تعلق الأمر هذه المرة بمشاعر الرئيس أظهرتا اتفاقاً غريباً، بحيث كان يتعين على الرئيس إظهار المزيد من المشاعر والتعبير عن أحاسيسه، وهو ما يمثل في نظرهما فشلا ذريعاً من أوباما للتعاطف مع المتضررين. فقد وصفت المعلقة "مورين دوود" بصحيفة "نيويورك تايمز" أوباما بأنه "بارد"، فيما دعاه زميلها "تشارلز بلو" إلى "التعاطف علانية مع غضب الآخرين". ولم يختلف الأمر في "فوكس نيوز" التي صرخ فيها أيضاً "شين هانيتي" بأعلى صوته قائلا: "إن أوباما هادئ جداً تحت الضغط إلى درجة لم يستطع معها التعبير عن مشاعره للشعب الأميركي". لكن بالإصرار على مطالبة أوباما باستعراض مشاعره علناً، يكون هؤلاء المنتقدون فقط يساهمون في ترسيخ أسوأ العناصر في ثقافتنا السياسية، فنحن لا نستطيع أبداً التعرف إلى مشاعر الرئيس كما هي"في الحقيقة"، والأهم من ذلك علينا أصلا ألا نسعى إلى معرفتها ليبرز السؤال التالي: لماذا نحاول التعرف على تلك المشاعر والبحث عنها؟ تكمن الإجابة في ثلاثة تيارات أساسية تعزز بعضها البعض بشكل تبادلي في الحياة الأميركية المعاصرة، وهي: الاعتراف والشهرة والريبة. فهذه العناصر الثلاثة مجتمعة تهدد بإغراق سياستنا في نظرة ضحلة ومزيفة لا تعبر عن الواقع أو الحقيقة، وعلينا في هذا السياق أن نحيي الرئيس أوباما لا أن ننتقده لأنه حاول التصدي لهذه العناصر ومقاومتها. فثقافة الاعتراف التي تغشى حياتنا على نطاق واسع ترى أنه يتعين على الجميع التعبير عما يختلج في نفوسهم من مشاعر خاصة، كما يحدث حالياً على الإنترنيت، أو برامج تلفزيون الواقع، ولا يهم طبعاً -حسب هذه الثقافة- أن تتآكل المنطقة الحميمة داخل النفس التي تفترض وجود مشاعر خاصة يحتفظ بها الإنسان لنفسه، ذلك أن كل شيء يجب أن يخرج إلى العلن. وهذا الميل إلى تحويل الخاص إلى عام يجعل من الجميع مشهورين، فبنشر الغسيل علناً، سواء أكان قذراً أم ناصعاً، يرتقي الفرد إلى مرتبة كانت مقتصرة في السابق على نجوم هوليود والرياضيين لتصبح ذواتنا ما نحاول نشره عنها في الإنترنت والمدونات لا كما هي عليه في الواقع. وهو بدوره ما يقودنا إلى شعور متجذر بالشك والريبة لأننا ندرك في أعماق أنفسنا أننا لسنا ما نظهر، وأننا لا نستطيع أن نكون دائماً ما نتمنى. والنتيجة أننا نتبنى نبرة ساخرة حول أنفسنا وحول الآخرين. وفي عالم ينشغل فيه الجميع بالتلاعب بصورته بعيداً عن أي واقع أو مرجعية، يصعب علينا الوثوق في أي شخص، لذا فإنه بتوجيه المنتقدين دعوات إلى أوباما بإظهار مشاعره "الحقيقية" فإنهم ينقلون السياسة من حقل الحقيقة المشتركة إلى حقل لا شيء فيه حقيقي، وفي نفس الوقت فإنه بجعل السياسة متعلقة بالمشاعر بدل الأفكار يصعب الحفاظ على الحجج العقلانية التي تتطلبها الديمقراطية، ففي النهاية من يستطيع مناقشة المشاعر؟ كما يعكس هذا البحث عن المشاعر "الحقيقية" للقادة ما سماه الفيلسوف "ألاسدير ماكإنتير" بـ"الوجدانية" التي تقول إن جميع التقديرات ما هي إلى "تعبير عن مواقف أو أحاسيس"، والحال أنها ليست كذلك لأن أفضل الحجج وأكثرها تماسكاً هي التي تعكس المنطق والحقائق والعقل، لذا يتعين علينا التصفيق للرئيس أوباما لتحكمه في مشاعره وعدم ترك المجال لها لتتداخل مع التحليل الرصين لسياساته. ومهما كانت الأسئلة المتناسلة عن أزمة التسرب النفطي، وما إذا كان أوباما تعامل مع شركة "بي بي" بالطريقة الصحيحة، واستغل الكارثة على نحو بنّاء، مثل الدفع بمشروع قانون الطاقة، أم أنه فقط يسعى لتسجيل نقاط سياسية لصالح حزبه، فإن الإجابة بالتأكيد لن ترتبط بمشاعر أوباما وأحاسيسه، بل بتقييم دقيق وعقلاني لأفعاله ومبادراته. جونثان زيمرمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ والتربية بجامعة نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم سي انترناشونال"