ترددتُ طويلاً قبل أن أُقرِّر الكتابة في صحيفةٍ سيّارةٍ عن الموضوع الوارد في العنوان، لأنّ مسألةً كهذه لا تنحَسمُ في النهاية في الإعلام، بل في الدوريات والكتب المتخصِّصة. ثم رأيتُ أنّ الأساتذة الذين تناولوهُ في الأعوام الخمسة الأخيرة، عمدوا هم أنفسهم لطرحه في المجلاّت والصحف الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وربما في صحفٍ ومجلاّتٍ بلغاتٍ مُعاصرةٍ لا أعرفُها. والأَمْر الآخرُ أنني أكاد أُوقنُ الآن أنّ للأمر علاقاتٍ بالاستراتيجيات الثقافية والإعلاميّة التي لا تبتعد كثيراً عن المجالات السياسية العالمية. وخُلاصةُ الأمر أنه وفي السنوات الأخيرة، صدرت عشرات الكتب ومئات المقالات الأكاديمية والصحفية التي تبحث عن أُصولٍ للقرآن والإسلام فيما يُسمَّى الحِقَب الكلاسيكية المتأخّرة، أي القرون الثلاثة السابقة على ظهور الإسلام. وعندما دعاني الدكتور يوسف زيدان، مدير إدارة المخطوطات بمكتبة الإسكندرية للمؤتمر التاسع للمخطوطات بالمكتبة وعنوانه "التواصُل التُراثي"، اخترتُ موضوعاً لمحاضرتي: "الدين واللغة والتواصُل بين الجاهلية والإسلام". وفي المؤتمر الذي حضره أساتذةٌ من دُعاة تلك المقولة ومُروِّجيها، أثرتُ المسألة التي اعتبرتُها "مشكلة" في الدراسات "العلمية" الغربية، بالضبط لعشوائيتها وعدم علميتها بالمقاييس والمناهج التي تعلمناها منهم أو من أساتذتهم! فمنذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وعندما بدأت الدراساتُ "العلمية" غير الجدالية، كُتبت مئاتُ البحوث عن الأصول اليهودية أو المسيحية للقرآن وللإسلام. ثم آل الأمر في الثلث الأول من القرن العشرين، ومع ظهور تيارات المجالات الثقافية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية الأُخرى، إلى اعتبار الإسلام "علماً" يُدرسُ كسائر الأديان، ولا يفيدُ في شيء النظر إلى القرآن باعتباره شذراتٍ وشراذم، مأخوذة من هنا وهناك، وليس نصّاً له نظامُ خطاب ورؤية للعالم. وازداد هذا الاتجاه تبلْوُراً بعد مؤتمر الفاتيكان الثاني (1962 -1965) الذي اعترف بالإسلام (إلى جانب اليهودية)، وصار الحديث بعده عن الديانات الإبراهيمية الثلاث. لكنْ ومنذ أواخر السبعينيات عادت نغمةُ القرن التاسع عشر ذاتها، وهذه المرة بحجة الثورات في العلوم الاجتماعية واللسانية. وطغى اتجاهان؛ أولهما: تفكيك النصّ القرآني واعتباره كنصٍ قانوني أو رسمي بصيغته الحالية، نتاجاً من نتاجات القرن الثالث الهجري، تحقّق عبر تطورٍ طويل! وثانيهما: العودة للبحث عن أُصول النصوص القرآنية في النصوص الدينية السابقة (المسيحية السريانية على الخصوص)، إلى حدّ القول أحياناً إنه مُترجَمٌ عن إنجيل سرياني. وقد ووجه الاتجاهان الأول والثاني من جانب المستشرقين الجادّين أنفُسهم، في دراساتٍ صارت مبسوطةً ومشهورة. بيد أنّ المجادلات في هذا الصدد ما وصلت إلى مستقرّ، لأنّ دُعاة الاتجاهين كوَّنوا تلامذةً لهم، ما يزالون يسيطرون على كثيرٍ من كراسي الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، والأميركية على الخصوص. وهؤلاء ما يزال ديدنُهُم وهاجسُهُم البحث عن "القرآن الأصلي"! وواضحٌ هنا أنّ الأمر ينطوي على تناقُضٍ ظاهر. فإذا كان مصحفُنا الحالي نتاج تطور طويل، فكيف يكون هناك نصٌّ أصليٌّ قائمٌ منذ أيام النبيّ (ص)، ثم غطّتهُ نصوصٌ وتعديلاتٌ أُخرى، وكيف تكتسبُ تلك الشذرات والتعديلات مشروعيةً في عيون المسلمين واعتقاداتهم ما دامت مُغايرةً لما كان عليه الأمر الأول؟! وآخِر وقائع هذه النزعة كتابٌ ضخمٌ عنوانُه ترجمةٌ للآية القرآنية: "ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم.."؛ يزعُمُ صاحبُهُ، ديفيد بورز، أنّ آيتي الكلالة (أي المتوفَّى بدون أصولٍ أو فروعٍ وارثة)، داخلَهُما تحريف متعمَّدٌ، لمنع توريث زوجة الابن المتوفَّى. ثم يصل من وراء ذلك، وفي نطاق البحث عن "القرآن الأصلي" إلى نظريةٍ في النبوة المحمدية التي يزعم أنها كانت تقليداً للنبوة في بني إسرائيل، وأنّ أصحاب النبيّ حرَّفوا النصوص لإيقاف الآثار التي تترتبُ عليها في الإمبراطورية الجديدة! أما التوجُّه إلى "الكلاسيكيات المتأخرة" فلا يقومُ بعبئه المستشرقون الجدد وحدهم، بل يشاركهم فيه علماءُ الكلاسيكيات، أي العصور اليونانية (الهيللينية) والهيللينستية (الرومانية والبيزنطية)، باعتبار أنّ ظهورَ الإسلام هو الذي يفتتح العصور الوسطى. وكان علماء الكلاسيكيات أو أسلافُهُم قد أَولوا بعض الاهتمام منذ إرنست رينان( أواخر القرن التاسع عشر) لبحث "طبائع" الأديان على أساس الأعراق والأجناس وخصائصها وعقلياتها. فكان نصيب اليهودية والإسلام أنهما من نتاجات العقلية الساميّة، والأديان الإيرانية والمسيحية من نتائج العقلية الآرية والهندو أوروبية.. إلخ. وما يذهب إليه كلاسيكيو ومستشرقو اليوم أنّ الهيللينستية عمّت العالَم المتحضّر بعد القرن الثالث الميلادي، وأنّ الإسلام بقرآنه وتعالميه ونُظُمه هو أحدُ نتاجاتها، مثل شِيَعٍ وفِرَقٍ ودياناتٍ أُخرى كثيرة غصّت بها تلك القرون والأحقاب! فالأمر هنا ما عاد قاصراً على قراءة الروح العام للدين أو الحضارة، بل يتناولُ أيضاً النصَّ القرآنيَّ بالدرجة الأولى، فتعود مقولة الشراذم والقِطَع التي يلمعُ من خلالها هذا العنصر الكلاسيكاني أو ذاك، ويصبح رسول الإسلام إحدى الشخصيات مثل ماني أو مزدك أو نسطوروس او يعقوب السروجي أو إيريانوس، ممن استوعبوا النسائج الثقافية والدينية لتلك الحِقَب، وأعادوا صياغتها صياغةً أوليةً في هذا النصّ، الذي توالت عليه تعديلاتٌ أُخرى بعد ظهور ما صار يُعرفُ بالإسلام! لقد تكاثرت هذه البحوث تكاثُراً عجيباً في السنوات الأخيرة، وشارك فيها دارسون كانوا هم أنفسهم قد تصدّوا للنزعة الظاهرة في أواخر السبعينيات. وعندما أرسلت إليّ إحدى الدارسات- المتصديات سابقاً لمقولة الشرذمة وتطور النصّ عبر أكثر من قرنين بعد وفاة النبيّ- على الإنترنت كتابها الجديد بعنوان: "القرآن والكلاسيكيات المتأخرة"، فاض بي الكيل، فكتبتُ إليها بشأن ذلك، وجاءت إليّ لتقول إنها لم تنهزم أو تتراجع أمام الطوفان الحاضر، لكنها وزملاءها يقومون بذلك لسببين: أنهم فعلوا ذلك ويفعلونه مع النصوص اليهودية والمسيحية، وأنهم يُدخلون القرآن والإسلام في نطاق دراساتهم للأعصُر الكلاسيكية احتراماً لهما واعترافاً بهما، باعتبارهما من النتاجات الحضارية الكبرى لليهللينستية! قد تكون بعض الدراسات مخلصة، لكنّ المنزع والتوجُّه كُلًَّه مثيرٌ للشكوك والتوجسات. ولستُ أتحدث هنا عن مؤامرةٍ أو ما شابه، لكنه أمرٌ عجيبٌ أن نقف نحن وهم أمام رسالةٍ للجاحظ أو مسرحية لشكسبير، فنعتبرهما نصاً له بنيةٌ ونظام خطاب ورؤية للعالم، وندرسهما في احترامٍ شديد للأواليات والآليات والأسلوب والمفردات الدالّة، ثم نأتي إلى نصٍ دينيٍ وشعائري شديد الوحدة في الأصل، وفي وعي المليارات التي تعبدت وتتعبد به، وله منطقٌ وانتظام منقطع النظير، فلا نقرؤه باعتباره كذلك، بل نفكّك بُناهُ، ونشرذمه، لنبحث عن كلاسيكيات الإسكندر وقانونيات جستنيان فيه! لا أستطيع أن أُبعد عن مجال النظر والتأمُّل الإسلاموفوبيا السائدة في الغرب والشرق اليوم، كما لا أستطيعُ أن أَفْصِلَ هذه الكلاسيكيات التي ظهرت في القرآن فجأةً عن تلك الإسلاموفوبيا. وهذا التخمين يبقى ويتدعم ويتعاظم، سواءٌ اعتُبرتْ نصوصنا ترجماتٍ بائسة للإنجيل الأبيوني، أو نتاجات مجموعة من الكلاسيكيات المحترمة!