في خطابه أمام قدامى المحاربين الأميركيين المعاقين في أطلانطا في الثاني من أغسطس، ثمن أوباما التضحيات التي قدمها الجنود الأميركيون في الحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتحدة، وأكد أن "عشرات الآلاف من الجنود الموجودين في العراق سيعودون إلى الوطن هذا الصيف". وعلى رغم أن المهمة القتالية الأميركية في العراق توشك على الانتهاء نظريّاً، إلا أن ما يحدث في الوقت نفسه تقريباً هو إرسال المزيد من المدنيين الأميركيين إلى هناك. وهؤلاء المدنيون سيكونون بحاجة إلى الحماية سواء من قبل القوات العراقية، أو من قبل الشركات الأمنية المتُعاقد معها، أو القوات الأميركية التي ستبقى في العراق بعد رحيل الجزء الأكبر منها، والتي يصل عددها إلى خمسين ألف جندي سيبقون في العراق من أجل القيام بـ"واجبات الدعم". ويظل العراق، مع ذلك، مكاناً خطراً حيث تدعي الحكومة العراقية أن عدد القتلى من العراقيين جراء عمليات العنف في شهر يوليو قد وصل إلى 400 شخص، وهو أكبر عدد من القتلى يسقط في شهر واحد منذ عامين. غير أن مصادر القوات الأميركية في العراق تتشكك في هذا الرقم، وتقدر أن عدد المدنيين الذين لقوا مصرعهم خلال هذا الشهر لا يتجاوز 161 شخصاً. ولكن العراق بات على ما يبدو تاريخاً بالنسبة للأميركيين، الذين يركزون جل اهتمامهم في الوقت الراهن على أفغانستان. والشيء المقلق هو تزايد المعارضة لتلك الحرب لدى الجناحين اليميني واليساري في الحزبيين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، على حد سواء. ومن المعروف أن السيناتور "لندسي جراهام" ("الجمهوري" من ساوث كارولينا)، والعضو البارز في لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي، كان واحداً من أبرز الداعمين لسياسة أميركية خارجية وعسكرية نشطة. وقد كان على سبيل المثال من أبرز المشجعين لبوش خلال اللحظات الحاسمة في حرب العراق وما بعدها، كما كان مؤيداً لقرار أوباما، بإرسال المزيد من الجنود إلى أفغانستان حيث تدور "حربه الخاصة". وفي مقابلة أجرتها معه"سي. إن. إن" في الأول من أغسطس الجاري كان "جراهام" صريحاً في التعبير عن موقفه، حيث قال إنه لا يتوقع حدوث تقدم كافٍ على الأرض بما يسمح بإجراء تخفيض في عدد القوات الأميركية الموجودة في أفغانستان قبل حلول يوليو 2011 وهو التاريخ الذي حدده أوباما للبدء في الانسحاب. ولكن "جراهام" خلص مع ذلك إلى أنه إذا لم يتحقق تقدم ملموس بحلول نهاية هذا العام، أي بعد أربعة أشهر من الآن، فإن مهمة القوات الأميركية في ذلك البلد ستواجه مأزقاً. وقال بالحرف: "هل تعرف ما هو الشيء الذي يقلقني أكثر من غيره؟ إنه حدوث حلف غير مقدس بين اليمين واليسار، بمعنى أن بعض الجمهوريين لن يتخذوا موقفاً داعيّاً لاستمرار الحرب وتحقيق النصر بأي ثمن، بل آخر أقل حدية كالاكتفاء بالقول إننا لن نستطيع كسب الحرب الدائرة بسبب تحديد تاريخ الانسحاب في يوليو 2011". (يقصد القول إنهم بموقفهم هذا يكونون أكثر قرباً من اليسار الديمقراطي). غير أن "جراهام" أضاف: "مع ذلك تجد في اليسار أناساً غاضبين بشدة على الرئيس لأنه يفعل ذات الأشياء التي كان يفعلها بوش، ولأن ذلك كله يؤدي إلى الوضع الذي نحن فيه الآن حيث نخوض حرباً لا نقدر على كسبها". وهناك سبب منطقي يدعوه للقلق بشأن تحالف اليمين واليسار بشأن الحرب. فمن المعروف أن الجناح اليساري في الحزب "الديمقراطي" قد عارض طويلا الحربين في العراق وأفغانستان. وصادق على اختيار المرشح الرئاسي أوباما أصلاً لأنه كان يعارض الحرب الأولى، ويؤيد العمليات الأميركية في الثانية. ولكن بمجرد أن تولى الرئاسة، وعمل على زيادة أعداد القوات في أفغانستان، بدأ غضب الجناح اليساري في حزبه يحتدم. وفي الجانب اليميني من الحزب "الجمهوري"، كان هناك دائماً "انعزاليون جدد" معارضون للحربين في العراق وأفغانستان، وللالتزامات العسكرية الأميركية طويلة الأمد في كوريا واليابان وأوروبا.. وحجتهم في ذلك أنه لم يعد من المقبول أن تنفق الولايات المتحدة ملايين الدولارات من أجل حماية دول أجنبية غنية. وهناك بعض الأعضاء في مجموعة منشقة عن الحزب "الجمهوري" هي" حفلات الشاي" تدعم الحربين، ولكن آخرين فيها يعتقدون أن الإنفاق العسكري يؤدي إلى زيادة العجز في الميزانية الأميركية، وأنه يجب أن يخفض، شأنه في ذلك شأن كافة البرامج الحكومية. والشيء الذي يهم في هذا الموسم السياسي، هو أرقام الخسائر في أفغانستان التي تزايدت حتى وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق منذ أن بدأت الحرب في ذلك البلد. وهذا زاد من إحساس المواطن الأميركي العادي بما تمثله تلك الحرب من عبء على بلاده، خصوصاً على ضوء ما يؤكده الخبراء من أن احتواء التمرد في أفغانستان سيؤدي حتماً إلى زيادة تلك الخسائر. وإذا لم يتم إظهار حدوث تقدم على الأرض بحلول نهاية العام الجاري، وظلت الخسائر عند مستوياتها المرتفعة، فإن الدعم الذي يقدمه الحزبان في الكونجرس لتلك الحرب سينخفض بشدة، ما يجعل أوباما عاجزاً عن الحصول على المخصصات المالية الضرورية اللازمة للاستمرار في العمليات العسكرية عالية الكثافة التي تجري هناك. وعلى رغم الحجج الاستراتيجية المؤيدة لاستمرار الحرب في أفغانستان فإن الحال هو أن الشعب الأميركي قد بات مرهقاً وغاضباً ويعاني أشد المعاناة في الداخل جراء تلك الحرب وتداعياتها. فالأميركيون العاديون يشتكون في الوقت الراهن من البنية الأساسية المتداعية، والاختلال الوظيفي للحكومات الولائية والفيدرالية. ومن المتوقع أن يصب هؤلاء الأميركيون جام غضبهم على أوباما وحزبه في نوفمبر المقبل وقد يضطرونه إلى خفض أعداد القوات الأميركية في أفغانستان، بصرف النظر عن الأوضاع على الأرض هناك. ويمكن أن يكون هذا بمثابة نقطة فاصلة للسياسة الخارجية الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب وتدشيناً لمرحلة إعادة تقدير كبيرة للنزعة الأميركية الساعية للتدخل الدولي والالتزام الخارجي وحفظ النظام العالمي.