بعد أن تحول العالم إلى قرية صغيرة وتغيرت ملامح الحضارة الإنسانية منذ اختراع "الآلة"، وأصبحت الثورة العلمية والمعرفية والتقنية هي التي تحرك العالم وتحكم مصير الحضارة الإنسانية وتحدد مدى تقدم هذه الدولة أو تلك، أصبح من الواجب الآن أن ندرك خطورة الموقف وحجم المسافة الحضارية التي تفصل بيننا وبين هذه التغيرات الشديدة السرعة والتي غفلنا عنها طويلاً، وأن نعمل سريعاً وبقوة قبل فوات الأوان على توظيف كل العناصر الفاعلة والأدوات المعرفية والفكرية والمنهجية المحركة والتي تعمل على تقريب المسافة بيننا وبين الطرف المتقدم. ومن هذا المنطلق وفي ظل هذه الاستراتيجية فإن الحديث عن "صناعة التدريب" يعتبر اليوم من الأحاديث المهمة كونه أحد العناصر المهمة في تحقيق التوازن الاستراتيجي في معادلة منظومة التنمية، وذلك من خلال ما يرمز إليه مفهوم التدريب، كونه يعني في العرف الإداري والمعرفي والتعليمي مساعدة الأفراد وتعليمهم على اكتساب الكثير من المعارف التعليمية والتقنية والمهارات الابداعية والابتكارية والأفكار الإدارية والمعرفية والعلمية المتجددة والاتجاهات اللازمة للوصول إلى الأهداف المرسومة وفق خطة التنمية الشاملة وخاصة أن غالبية الأبحاث التي أجريت في مجال علم التدريب تقول بصريح العبارة إن التدريب يلعب دوراً أساسياً في تحريك التنمية ونمو الثقافة ونمو الحضارة، وهو أداة التغيير الرئيسية ووسيلة التعامل الأولى مع التكنولوجيا الحديثة، وهو أساس كل تعليم وتطوير وتنمية للعنصر البشري.
إن صناعة التدريب اليوم هي من أهم الصناعات المعرفية التي تتسابق عليها الدول خاصة في ظل ثورة المعلومات والمعارف، وتجدد الطلب على المهارات الوظيفية الجيدة كونها أصبحت علماً مختصاً بذاته ومصدراً أساسياً لحركة التنمية في المجتمع ومورداً مهماً يدر على الدول ثروات مادية وبشرية طائلة تعود بالفائدة العظيمة على المجتمع والدولة، وهناك ميزانيات ضخمة تخصص فقط لتمويل هذا البند، ويكفي مثال واحد لنثبت أهمية هذا العنصر في حياة المجتمعات المعاصرة لإحدى الشركات الأجنبية التي خصصت ميزانية ضخمة للتدريب وصلت قرابة المليار دولار، وهي ميزانية تقارب ميزانية دولة من دول العالم الثالث.
نحن في دولة الإمارات أدركنا أهمية هذه الحقيقة، وسعت الدولة إلى إنشاء المراكز والمعاهد التدريبية، وفتحت المجال للقطاع الخاص لإنشاء مؤسساته التدريبية في جميع المجالات المهنية والفنية والتقنية والعلمية. لكن الأسئلة المهمة هنا: ما مدى فاعلية هذا الكم الهائل من المراكز والمعاهد المختصة في صناعة التدريب خاصة في ظل هذا العدد الهائل من المعاهد الخاصة؟ وهل تعمد هذه المؤسسات التدريبية وفق استراتيجية الدولة التنموية وتلبي حاجات السوق المحلي ومؤسسات الدولة؟ وما مدى جودة برامجها والعاملين فيها ومخرجاتها، وديمومة هذه الجودة وسرعة تعاملها مع ظاهرة التقادم السريع لبعض المهارات بفعل التطورات التكنولوجية والمعرفية المتلاحقة؟... هذه كلها أسئلة تحتاج منا إلى إجابات واضحة وصريحة خاصة بعد أن تحولت عملية التدريب في الكثير من هذه المعاهد والمراكز الخاصة إلى عملية تجارية بحتة "تشوه صناعة التدريب" بالدولة، حيث أصبحت غالبيتها مجرد دكاكين لصرف الشهادات ذات الألوان الزاهية والإطار الجميل وكأن الحاصلين عليها في طابور للحصول على تذكرة لدخول السينما، خاصة في ظل غياب التقييم الفاعل لتلك المؤسسات.
إن واقع صناعة التدريب بالدولة يقودنا إلى ثلاث قضايا غاية في الأهمية:
القضية الأولى: غياب الرقابة الفاعلة لحركة هذه المؤسسات التدريبية وافتقادها القياس الفعلي والتقويم الحقيقي لإنتاجيتها ومخرجاتها خاصة في موضوع الجودة والمصداقية والتي من المفترض أن تكون هي الأساس في استمرار ممارسة هذه المؤسسات دورها في صناعة التدريب وخاصة أنها أصبحت الآن بوابة لتأهيل المواطن وتدريبه لممارسة دوره الوظيفي في مؤسسات الدولة المختلفة.
القضية الثانية: انفتاح سوق الإمارات أمام مراكز التدريب الأجنبية، وقريباً سوف تكون هناك كثافة أكبر لهذه المؤسسات التدريبية وذلك وفق متطلبات منظمة التجارة العالمية مما يعني أن هناك منافسة شديدة سوف تواجه المراكز والمعاهد المحلية للحفاظ على دورها في منظومة هذه الصناعة وأي تراجع أو ضعف سوف يترك الساحة للغزو الأجنبي.
القضية الثالثة: ضعف الوعي بأهمية التدريب، حيث ما زال الاقتناع بجدوى التدريب غائبا مقارنة بالكثير من الدول المتقدمة، وما زالت "الأمية" حول مفهوم التدريب تشكل معوقاً حقيقياً لنجاح سياسة التدريب في الدولة، وهذا الأمر يتطلب وضع استراتيجية واضحة تنطلق من نشر "ثقافة التدريب" في المجتمع بشكل واسع وطرح "ثقافة التدريب" ضمن المناهج الدراسية حتى يصبح الجيل القادم في المستقبل على قدرة عالية ووعي كامل بأهمية التدريب، وحتى تصبح صناعة التدريب ذات مستوى عال من الفائدة.