في زمن النصر منذ ما يزيد على عام، وعندما تم إسقاط تمثال صدام حسين وتلاشى الجيش العراقي، كان أكثر مؤيدي حرب بوش ضد العراق حماسة يجادلون بالقول إن العراق ليس إلا المرحلة الثانية (الأولى هي الحرب في أفغانستان)، من حرب كبرى تهدف إلى تخليص دول الشرق الأوسط الكبير من الأنظمة الفاسدة. وكان ما قيل في ذلك الوقت أيضا إن(الرجال يذهبون إلى بغداد أما الرجال الحقيقيون، فيذهبون إلى دمشق وطهران). أما اليوم فإن أكبر مؤسسة عسكرية في التاريخ، تجد نفسها عالقة، ومضطرة إلى محاربة تمرد شرير، في دولة لم تظهر أدنى تقدير لما بذلناه من دماء وأموال من أجلها. أما في الوطن، فإن الكثير ممن رفعوا أصواتهم بتأييد الحرب في البداية، أصبحوا يقومون الآن بتوجيه اللوم لإدارة بوش أو لأشخاص معينين فيها، بسبب الأخطاء العديدة التي قاموا بارتكابها. وقد ازدادت المشاجرات الحامية المشتعلة بين الطرفين حدة في أعقاب الكوارث التي تعرضنا لها خلال شهري إبريل ومايو 2004 في العراق.
ولكي أكون منصفا، فإنه يتعين علي القول إن ثمة أنباء طيبة في العراق اليوم، بيد أنها لا تجد طريقها إلى صدارة صفحات الصحف. أما الحقيقة الماثلة فهي أن الأمور في العراق أو في الشرق الأوسط بصفة عامة يمكن أن تسوء كثيرا بالنسبة لإدارة بوش. بالنسبة لسوريا قامت الولايات المتحدة بتجميد الزحف على دمشق، وقامت بدلا من ذلك- وإن كان متأخرا بعض الشيء، بفرض عقوبات على ذلك البلد وهي عقوبات لا يتوقع أن يكون لها تأثير كبير إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين محدودة للغاية. أما في إيران فإن رجال الدين المحافظين، وعلى رغم أنهم مكروهون من معظم الإيرانيين، قد غدوا أكثر قوة عما كانوا عليه من قبل، كما قطعوا شوطا كبيرا على طريق امتلاك قدرات لتصنيع أسلحة نووية. وإيران لها وجود متنام في العراق، وإذا ما أرادت فإنها تستطيع أن تسبب الكثير من المشاكل لقوات التحالف، في الوقت الذي تستعد فيه الأخيرة لتسليم السيادة للعراقيين بحلول الأول من يوليو القادم. وقد استخدمت إيران ما تتمتع به في العراق من قوة ضغط، كي تثني الولايات المتحدة عن اتخاذ إجراءات أحادية قاسية لإيقاف برنامجها النووي. بدلا من ذلك اختارت الإدارة الأميركية بحكمة أن تعمل مع الاتحاد الأوروبي والوكالة الدولية للطاقة النووية للحد من برنامج إيران النووي. ويمكن القول إنه من غير المرجح أن تنجح جهود الولايات المتحدة في هذا السياق إذا لم تكن مستعدة لتقديم جزرة كبيرة الحجم لإيران تتمثل في التوصل إلى اتفاقية معها تنص على عدم قيامها – الولايات المتحدة- بالضغط عليها من أجل إحداث تغيير للنظام فيها.
إن الضغوط الأميركية من أجل تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط تبدو وكأنها هي الأخرى قد بدأت تتباطأ تدريجيا. ففي الثالث من نوفمبر 2003، ألقى الرئيس بوش خطابا مرتفع النبرة ذهب فيه إلى القول إن" سياسات التماس الأعذار والتسامح مع عدم وجود الحرية التي اتبعتها الدول الغربية في الشرق الأوسط على مدار 60 عاما لم تفعل شيئا من أجل جعلنا آمنين". وفي الحقيقة إن ما قاله بوش في هذا الخطاب يدل على الفجوة القائمة بين نظريات الإدارة وتطبيقاتها في تغيير الشرق الأوسط. فبوش وفقا لما قاله في هذا الخطاب يفترض به أن يقوم بقطع التعاملات مع الأنظمة التسلطية من أجل أهداف الولايات المتحدة ومصالحها الأكبر. ولكن الحقيقة هي أن الذي يمنعه من ذلك هو إدراكه أن الحرب التي كان يفترض أنها ستقوم بتغيير الشرق الأوسط الكبير، لم تكن لتنجح لولا التعاون الفاعل الذي قدمته الأنظمة التسلطية العربية الرئيسية. على نفس المنوال نجد أن الحرب في أفغانستان، والتي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، تتطلب من الولايات المتحدة أن تقوم بمداهنة "ديكتاتور" أوزبكستان إسلام كريموف، وأن تعطي "ديكتاتور" باكستان برويز مشرف صك براءة في واحدة من أفظع قضايا الانتهاك لنظام عدم الانتشار النووي في التاريخ وهي قضية بيع أسرار القنبلة النووية في السوق السوداء بواسطة العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان.
والسؤال الآن هو كيف ستبدو الولايات المتحدة أمام شعوب الشرق الأوسط بعد كل هذا؟. خصوصا وأن تلك الشعوب تتطلع للإصلاح؟.عندما استضاف بوش الرئيس المصري حسني مبارك في مزرعته في كراوفورد- تكساس في الثاني عشر من إبريل 2004، واعتذر بعدها بعدة أسابيع للملك الأردني عبد الله الثاني عن الانتهاكات التي حدثت في سجن أبوغريب فإن صورة المبادئ التي تمثلها أميركا قد اختلطت في أعين شعوب المنطقة. لقد كان وجود جرعة صحية من الواقعية، من الأشياء التي تحرص عليها الإدارات الأميركية المختلفة دائما. وحدوث هذا الآن سيجد قبولا أكثر من الكثيرين في مختلف أنحاء العالم، خصوصا إذا جاء مقرونا بتشذيب للتصريحات السياسية، وتخليصها من تلك النبرة الأيديولوجية المكثفة التي كثيرا ما تصاحبها.