ليس من قبيل "المصادرة على المطلوب" أو "وضع العربة أمام الحصان" أن يتوقع كثيرون أن تنتهي المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية المباشرة التي انطلقت في واشنطن أمس إلى لا شيء. فإمعان النظر في كل ما جرى بين الطرفين منذ مؤتمر السلام الذي انعقد في العاصمة الإسبانية مدريد سنة 1991 وحتى هذه اللحظة يشي بذلك، حيث تراوحت النتائج دوماً بين اتفاقات ناقصة لا تمنح الفلسطينيين ولو الجزء اليسير من حقهم التاريخي، أو برتوكولات تبقى مجرد حبر على ورق، أو ضغوط دولية وإقليمية على الجانب الفلسطيني، أو تعنت إسرائيلي يرافقه عدوان مستمر على الشعب الفلسطيني الأعزل. وتتعاقب الحكومات في تل أبيب بين "العمل" و"الليكود" و"كاديما" من دون أن تتغير هذه المعادلة، التي لا تلوح في الأفق أية بادرة لكسرها أو الخروج من دائرتها الخانقة المحكمة. ومن هنا فإن الإخفاق ليس فقط النتيجة المتوقعة للمفاوضات المباشرة، إنما هو المبدأ الرئيسي للتفاوض الفلسطيني- الإسرائيلي على مدار عقدين كاملين من الزمن. فالإسرائيليون يذهبون إلى طاولات المفاوضات ومعهم قرار مسبق بإفشال كل شيء، والفلسطينيون يدركون هذا تماماً، ولكنهم في كثير من الأحيان لا يجدون بديلاً للامتثال لفكرة "التفاوض من أجل التفاوض" التي ترسخت كتكتيك إسرائيلي ليس له مثيل في العالم بأسره، بل لا أكون مبالغاً إن قلت إن مثل هذا التصرف الخبيث لم تعشه البشرية منذ أول الخليقة وحتى الآن. فالناس تتفاوض بحثاً عن حلول وليس رغبة في الثرثرة وإضاعة الوقت والمماطلة، وحتى إن كان هناك من استخدموا التفاوض ذريعة لكسب الوقت أو كهدنة غير معلنة أو كاستراحة محارب قبل استئناف القتال، فإنهم لم يلبثوا أن عادوا إلى التفاوض الحقيقي والجدي بعد تحقيق الأهداف، أو تحسين الأوراق التي بأيديهم، والتي تمكنهم من الضغط على الطرف الآخر لإجباره على تقديم تنازلات أو الإقرار بحقوق. وحدها المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية هي الاستثناء التاريخي، حيث لا يجد الطرف صاحب الحق فرصاً حقيقية للضغط على خصمه، ولا يبدي الطرف المغتصب للحق أي استعداد لصنع فرصة ولو نادرة أو عابرة للاعتراف بتجاوزه. ويستمر هذا الوضع البائس دون انقطاع في ظل تواطؤ دولي وعجز عربي وانقسام فلسطيني. والحالتان الخارجتان على مألوف هذه المعادلة صنعتهما انتفاضة الحجارة التي اندلعت في ديسمبر عام 1987 وانتفاضة الأقصى التي فارت وثارت في سبتمبر 2000. فبفعل هاتين الانتفاضتين كان الطرف الإسرائيلي المتعنت يجد نفسه مضطراً إلى إبداء درجة من الجدية في التفاوض، ليس للإقرار بحقوق الفلسطينيين، بل للدفاع عن أمن إسرائيل ووجودها. ومن دون شك فإن هذه الحمولات التاريخية ستجثم على مفاوضات واشنطن المباشرة، فإسرائيل ذهبت إليها مجردة من أية ضغوط، اللهم إلا النزعة الأخلاقية الرومانسية لأوباما والانفتاح الدولي المتدرج على "حماس" التي تحكم قبضتها على قطاع غزة. وهذان عنصران لا يشكلان "أزمة" بالنسبة للطرف الإسرائيلي، طالما أنه يملك أوراقاً أخرى للتعامل معها، بعيداً عن الاضطرار إلى التفاوض المباشر. أما الفلسطينيون فقد ذهبوا ووراءهم شارع منقسم، وسلطة موزعة بحكم الواقع، وشعب فقد قسطاً كبيراً من الثقة في قياداته، ومحيط عربي رفع شعار" السلام خيار استراتيجي" دون بحث جاد عن الخيارات الأخرى إن فشل هذا السلام المزعوم. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: لماذا ذهب الإسرائيليون إلى التفاوض طالما أنهم لا يتعرضون لضغوط تجبرهم على اتخاذ هذه الخطوة؟ والإجابة الأقرب إلى المنطق، والنابتة من معطيات تاريخية لا خلاف عليها، هي رغبة إسرائيل والولايات المتحدة في توظيف "القضية الفلسطينية" مجدداً في تحقيق أهداف استراتيجية إقليمية، لا تخرج هذه المرة عن مسألة احتمال توجيه ضربة عسكرية إجهاضية إلى البرنامج النووي الإيراني. والربط بين هاتين المسألتين ليس من قبيل الغرائب والعجائب، بل هو عين سياسة واشنطن وتل أبيب في العقد الأخير. فالولايات المتحدة أطلقت مفاوضات فلسطينية- إسرائيلية وتحدث رئيسها السابق جورج بوش لأول مرة عن "دولة فلسطينية" حين كانت الإدارة الأميركية تسعى إلى كسب العرب إلى جانبها في حربها ضد ما تسميه "الإرهاب الدولي" عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وتكررت هذه اللعبة قبيل احتلال العراق، حيث تحدث بوش مجدداً عن "دولة فلسطينية" ورغبة أميركية حقيقية في إيجاد حل ناجع للصراع العربي- الإسرائيلي، حتى يكسب العرب إلى جانبه، وتحقق له ما أراد، فلما سقط العراق، تنصل بوش مما وعد به، وكأن شيئاً لم يكن. وربما يفكر الأميركيون والإسرائيليون في إعادة اللعبة للمرة الثالثة، متكئين على أن العرب سيلدغون من الجحر نفسه مرات ومرات دون تعلم ولا تدبر، أو لعجز وقلة حيلة، ومن ثم يطلقون مفاوضات مباشرة تتعلق بالقضية المركزية لدى العرب والمسلمين. فقبل ذهاب "أبو مازن" ونتنياهو إلى واشنطن، زار العاصمة الأميركية وزير الدفاع الإسرائيلي ومعه عدد من كبار العسكريين، وتكررت زيارات على مستوى موازٍ أو أدنى في الفترة الأخيرة، فسرها مراقبون ومصادر مطلعة على ما يجري خلف الكواليس بأنها تتم في ركاب المحاولات الإسرائيلية المستمرة في سبيل إقناع واشنطن بالمشاركة في هذه الضربة، التي ترى تل أبيب أنها ضرورية قبل بلوغ إيران هدفها بامتلاك سلاح نووي. ولا يريد نتنياهو أن يذهب إلى الحرب دون تقويض الأوراق التي بحوزة "حماس" و"حزب الله" اللذين سيدخلان المعركة حسب التقدير الإسرائيلي. ومن هنا فإن إسرائيل ليست معنية من هذه المفاوضات سوى بما يخدم سيناريو تضييق الخناق على إيران، وربما حدثت مقايضة مع إدارة أوباما بأن تشارك واشنطن في هذه الضربة مقابل أن تساعد إسرائيل الرئيس الأميركي في تحقيق بعض وعوده التي أطلقها أمام العرب في خطابه الشهير بجامعة القاهرة، وبعد أن تحقق إسرائيل هدفها فإنها ستنقض على كل شيء، وتدير ظهرها للجميع، بما في ذلك أوباما نفسه.