مكة... تاريخ النشاط الاقتصادي
كم كان عدد سكان مكة المكرمة، عندما ظهر الإسلام فيها، في القرن الهجري الأول؟ وما الأعمال والنشاطات الاقتصادية التي انهمكوا فيها؟ فقد انقسم سكانها إلى القرشيين وحلفائهم والموالي والرقيق وفئات أخرى.
حاولت الباحثة، د. إلهام البابطين تقدير حجم السكان باستخدام أعلى رقم ذكرته المصادر لعدد المقاتلين من أهل مكة، الذين خرجوا لمحاربة المسلمين في المدينة. ففي غزوة أحد عام 3هـ، كان عدد الخارجين من قريش ثلاثة آلاف رجل، وفي غزوة الخندق عام 5هـ خرجت قريش وأحابيشها وعددهم أربعة آلاف رجل. وتقدر الباحثة عدد زوجات المقاتلين بنحو 5400 زوجة، والأبناء بـ12 ألفاً، فيكون المجموع 20400، نضيف إليهم غير المؤهلين لحمل السلاح ومن كبار السن والمرضى، وعددهم ربما كان 200 رجل، والنساء غير ذوات الأزواج والأرامل بنحو 500 امرأة.. وهكذا!
وتقدر د. البابطين إجمالي سكان مكة بحوالي 22 ألف نسمة! وكان مؤرخ سابق قد قدرهم بأربعة آلاف نسمة على أبعد تقدير، حيث اعتمد في تقديره على ما ذُكر عن أعداد المقاتلين في بدر بأنهم 950 مقاتلاً، حين اعتبرهم ثلاثة أرباع عدد الذكور في مكة، وأضاف إليهم الصبيان فأصبحوا 1500، وأضاف إليهم المرضى وكبار السن، ثم النساء، فأصبحوا أربعة آلاف. وقدر باحث ثالث، وهو "مونتجمري وات" عدد سكان مكة سنة 610 ميلادية بحوالي خمسة آلاف نسمة. وقد ارتفع عدد السكان حتى بلغ في منتصف القرن حسب تقديرات الباحثة، إلى ما يزيد على الثمانين ألف نسمة.
بم اشتغل أهل مكة في هذا العصر؟ وما الأنشطة التي مارسوها؟ عمل البعض في مجال الحكم والولاية وما يُعتبر اليوم في حكم الإدارة الحكومية، وكان أول والٍ في مكة، تقول الباحثة، هو "عتَّاب بن أسِيد بن أبي العيص"، وكان شاباً يتراوح عمره بين ثمانية عشر وخمسة وعشرين عاماً، من الأسرة الأموية. وقد بلغ عدد ولاة مكة في الفترة الراشدية والأموية 55 والياً لم يكن بينهم أحد من الموالي. وكان عمال الدواوين يساعدون الوالي، فيمكن الاستنتاج أن عدداً من أهل مكة كانوا يشتغلون موظفين في ديوان مكة. وكان لمكة قاضٍ، يُعين ويُعزل من قبل الوالي.
ومن موظفي الدولة عمال السوق ورجال الحسبة. وكان بعض أشراف قريش قبل الإسلام يقومون ببعض أعمال الحسبة تطوعاً، كمراقبة صناعة الأطعمة والأشربة مثل "قيس بن عدي السهمي"، ورغم أهمية هذه الوظيفة "فإن معلوماتنا عنها في هذه الفترة في حكم المعدومة"، تقول الباحثة.
ويرد ذكر الشرطة والحرس والجند في مكة في العهد الأموي في إشارات ليست كثيرة، بالإضافة إلى القائمين على تنفيذ الحدود، ورجال السجون. وهناك العاملون بالوظائف الدينية، ومنهم حجبة البيت أو السدنة. وكان الحجبة قبل الإسلام من "بني عبدالدار". وكان أحد مهامهم حفظ مال الكعبة في مكان خاص يسمى خزانة الكعبة. وكان المفتون في مكة في العهد الأموي يُعينون من قبل الخلفاء، ففي موسم الحج ينادي منادي الخليفة: لا يُفتى بالناس إلا عطاء، مولى بني فهر. ولم تُبن المصادر إن كان المفتون يأخذون الأجر على الفتوى. ومن العاملين بالوظائف الدينية أئمة الحرم والمؤذنون وغلمان الكعبة، ومن مهام هؤلاء المحافظة على نظافة البيت. ومنهم أصحاب المصابيح ممن يهتمون بشؤون الإضاءة.
جاء الإسلام، تضيف د. البابطين، وفي أهل مكة نفر كثيرون يحسنون القراءة والكتابة، وثمة إشارات ضئيلة جداً في تراجم بعض مشاهير العلماء المكيين تفيد أنهم كانوا معلمين في مقتبل أعمارهم. وكان معلمو الكتاتيب يتقاضون أجراً مقابل تعليمهم للصبيان. وكان بين الوظائف "العطاء"، وهو توزيع الغنائم على الناس. ولعل أول عطاء كان في مكة هو توزيع غنائم حنين. وكانت قريشا الأعلى نصيباً ثم بقية العرب فالموالي. وعندما حجّ "سليمان بن عبدالملك" سنة 97هـ، فرض لقريش أربعة آلاف فريضة، وفرض للعرب والموالي مثلها، وعندما خرج "زيد بن علي" على هشام بن عبدالملك سنة 121هـ، منع الخليفة هشام أهل مكة عطاءهم سنة كاملة.
هذا عن جهاز الدولة والهيئة الدينية، وما يعتبر اليوم في حكم القطاع الرسمي أو الإداري، فماذا عن "القطاع الخاص"؟
تناولت دراسات كثيرة تجارة مكة قبل ظهور الإسلام، حيث كانت التجارة أهم نشاط سكاني بمكة عند ظهور الإسلام، وكان كثير من أوجه التجارة المكية جماعياً يشترك فيه الأغنياء ومتوسطو الحال وحتى الفقراء. ولذا استطاعت قريش أن تُسيّر قوافل كبيرة الحجم، كثيرة الإبل، فقد وصل حجم قافلة في السنة الثانية من الهجرة ألفين وخمسمائة بعير. وقراءة مصادر السيرة تدل على تعدد القوافل في السنة الواحدة المتجهة إلى الشام، وربما كانت قوافل مماثلة تتجه إلى اليمن.
ولو قارنا أحوال ذلك الزمان بزماننا، لقلنا إن تجارة القوافل هذه كانت مجالاً للاستثمار الجماعي لعموم أهل مكة، كما هي الحال اليوم مع بعض الشركات المساهمة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام، بل وربما منحت هبة للناس كما جرى في الكويت قبل عام. وتقول بعض المراجع إن التجارة كانت قديماً في يد اليمنيين، وكانوا هم العنصر الظاهر فيها، فعلى يدهم كانت تنقل غلات حضرموت وظفار وواردات الهند إلى الشام ومصر، ثم تراجعت مكانة اليمنيين لأسباب، وحل محلهم في القبض علي ناصية التجارة عرب الحجاز منذ القرن السادس الميلادي.
كان التجار يخرجون بتجارتهم قوافل عظيمة، وقد رآها المؤرخ "سترابو"، الجغرافي والرحالة اليوناني الذي قام برحلات متوالية ليجمع مادة كتابه Geography في القرن الأول قبل الميلاد، وشبَّه القافلة منها بجيش! وذكر الطبري أن قافلة من هذه القوافل بلغت 1500 بعير. "وكانت القوافل تخرج مع عظيم استعداد وكبير حيطة، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهُداة يهدون السبيل والحراس يخفرون القافلة". ويضيف المؤرخ أمين، إن هذه القوافل كانت أول ما تنزل في البلاد الرومانية تنزل في "إيلة"، وهي المعروفة اليوم بالعقبة، ومنها تذهب إلى غزة، وهناك تتصل بتجار البحر المتوسط، ومن غزة يذهب بعض التجار إلى "بُصْرَى" بالشام.
وفي مكة تعددت الأسواق والمهن وتنوعت الحرف، فإلى جانب التجارة عمل بعض أهل مكة بالزراعة، والتي لم تكن حرفة ذات أهمية في مكة عند ظهور الإسلام. وقد اتسع العمل بالزراعة فيها خلال عهد الأمويين، حيث عمل في البساتين الكثير من الموالي والرقيق. ومن النشاطات الأخرى الرعي، وبخاصة الغنم والجمال. وعمل الكثيرون في مجموعة من الحرف الإنتاجية مثل الدباغة، وكانت الجلود من أهم السلع التي يتاجر بها أهل مكة قبل الإسلام. كما ذكرت بعض المصادر أن من بين رجال قريش من عمل حداداً عند ظهور الإسلام، كما عمل آخرون في مهن كالصياغة وتطعيم السيوف والنجارة والخياطة والحياكة وصباغة الملابس وصنع الأواني والخزامة أي صنع الحبال والبناء والكثير من المهن الأخرى.
ويقول د. حسين الحاج حسن، في كتابه حضارة العرب في عصر الجاهلية،
" قريش إجمالاً أستفادت من اشتغالها بالتجارة، فوائد معنوية وأدبية وحضارية على جانب كبير من الأهمية. "فقد خالطوا أقواماً من ذوي المدنيات القديمة كالروم والفرس والهند، واكتسبوا منهم معرفة غنية أثّرت كبير الأثر في تثقيف عقولهم ورُقيِّ مداركهم. إلى جانب هذا أتقنوا الكتابة والقراءة والحساب والمكاييل والموازين، لهذا كله حسنت إدارتهم لشؤون الكعبة، وسهلوا على الناس القدوم إليها وشجعوهم على الحج إلى بلدهم -أي مكة، وقد ظهرت آثار ذلك بعد الفتوح الإسلامية".