منذ تقديم عرضه الأول، حقق فيلم "فهرنهايت 9/11" نجاحاً كبيراً في أميركا "الزرقاء" (أي العمال) وكذلك أميركا الحمراء على حد سواء، ولاقى إقبالاً كبيراً حتى في دور العرض القريبة من القواعد العسكرية. ففي يوم السبت الماضي، أخذ "ديل إيرنهاردت الابن" أفراد طاقم سباق السيارات الشهير "ناسكار" إلى مشاهدة هذا الفيلم. وكان ينبغي أن تؤدي جاذبية الفيلم لدى أفراد الطبقة العاملة الأميركية- وهم الضحايا الحقيقيون لسياسات "جورج دبليو بوش"- إلى إرغام المنتقدين، ولا سيّما أولئك الليبراليون العصبيون الذين يسارعون إلى فصل أنفسهم عن مخرج الفيلم "مايكل مور"، على التردد وإعادة النظر في مواقفهم.
وقد كان هناك الكثير من التعجب من جهة المنتقدين الذين يتذمرون من أن الفيلم، على رغم أنه لم يُسجّّل عليه بعد وقوعه في أية أخطاء واقعية، استعان بأسلوب تداعي الأفكار والغمز من قناة الأشخاص لخلق انطباعات زائفة لدى المشاهد. ذلك أن الكثير من هؤلاء المنتقدين يعتبرون أن من الأمور السيئة إثارة قدر كبير من الضجيج حول استعانة إدارة بوش بأسلوب تداعي الأفكار والغمز من قناة الأشخاص بهدف ربط حرب العراق بأحداث 11 سبتمبر. فما مبرر رفع إنسان يتبع الجدل العنيف إلى معيار أعلى من المستوى الذي نضع عليه رئيس الولايات المتحدة؟
يؤدي فيلم "فهرنهايت 9/11" خدمة أساسية على رغم كل عيوبه. وسيكون فيلماً أفضل لو أنه لم يروّج للعديد من نظريات المؤامرة التي لم تثبت صحتها بعد، لكن تلك النظريات ليست هي السبب الذي دفع الملايين من الناس إلى مشاهدة الفيلم على رغم أنهم ليسوا ممن يكرهون الرئيس "بوش" كثيراً. فهؤلاء الناس يشاهدون الفيلم لكي يتعلموا القصص الحقيقية التي كان ينبغي أن يسمعوها في مكان آخر. ومن الجائز ألاّ يُعتبر المخرج "مور" شخصاً جديراً بالاحترام، لكن فيلمه هذا فيلم ناجح لأن وسائل الإعلام المحترمة لم تؤدّ عملها.
ومن ذلك على سبيل المثال أن جمهور المشاهدين صُدموا بفعل الدقائق السبع التي صارت الآن شهيرة، أي عندما علم الرئيس" بوش" يوم 11 سبتمبر بأن الأمة تتعرض للهجوم لكنه واصل قراءة قصة "عنزتي المدللة" مع مجموعة من الأطفال. فلا أحد أخبر هذا الجمهور قبل الفيلم بأن الحكايات التي تُحكى عن شجاعة وحزم الرئيس "بوش" في ذلك اليوم لم تكن سوى خيال. أو فكروا معي في تطرق الفيلم لعلاقات الرئيس بوش الشخصية. وقد لا يكون صحيحاً ما أوحى به الفيلم من الربط بين تلك العلاقات وتورط بعض السعوديين في أحداث 11 سبتمبر. ومن الجائز أن يكون ذلك صحيحاً أو لا يكون.
لكن ما صدم جمهور المشاهدين، في رأيي، هو الحقيقة التي مفادها أنه ليس هناك من أخبرهم بهذا الجانب من حياة الرئيس "بوش". وشخصية بوش التي تم بناؤها بعناية في الفيلم هي كلها من نوع شخصية الأميركي العادي الموجود في كل أميركا - والتي لا تشبه شخصيات خصومه المثيرين للشكوك والمنتمين إلى مختلف البلدان وأصحاب المظهر الأرستقراطي. وقد جارت وسائل الإعلام والأخبار ذلك الزعم بكل ابتهاج. فكم عدد ما شاهدتموه من القصص التي عرضت إجازة المرشح الديمقراطي "جون كيري" الفخمة على جزيرة "نانتاكيت" في المحيط الهادئ وقارنتها، على سبيل إظهار الفرق والتباين، بالوقت الذي قضاه الرئيس "بوش" في مزرعته؟
غير أن الواقع، الذي كشف النقاب عنه "مايكل مور"، يقول إن الرئيس "بوش" قد عاش دوماً في فقاعة من الامتياز. فأسرته، وهي أبعد ما تكون عن كونها من عامة الناس العاديين الذين تنغرس جذورهم عميقاً في قلب البلاد، هي أسرة لها علاقاتها الوثيقة مع النخب الأجنبية.
وتتجسد أقوى نقاط القوة لدى "مايكل مور" في تعاطفه الحقيقي مع الأميركيين من أبناء الطبقة العاملة، وهي نقطة القوة التي يفتقر إليها معظم الصحفيين. فبعد أن نزع مظهر الرجل الآتي من عامة الناس عن شخصية الرئيس "بوش"، استخدم "مايكل مور" فيلمه هذا- وبطريقة لا يتسنى اتباعها على الإطلاق للإحصائيات- لكي يقيم الحجة على أن سياسات الرئيس "بوش" تحابي النخبة الضيقة على حساب الأميركيين الأقل حظاً- وفي الواقع أن ذلك أحياناً يأتي على حساب حياتهم أيضاً.
وفي أمة من النادر فيها أن يؤدي أبناء الطبقة الغنية الخدمة العسكرية، يتابع "مور" في فيلمه المجندين في قوات المارينز وهم يجوبون مراكز التسوق في التجمعات السكانية المحبطة، حيث يكون التجنّد والتطوع في الجيش هو السبيل الوحيد أمام الشباب والشابات للهروب من الفقر. ويبيّن "مور" المديرين التنفيذيين للشركات وهم يعقدون في العراق مؤتمراً اتصف بالتبذير والسخاء، وحيث يقضمون قطع الخبز المحمص المدهون بالجبن والكافيار ويتحدثون بكل سعادة عن فرص تحقيق الأرباح، ثم يعرض بعدئذ الثمن المريع الباهظ الذي يدفعه الجنود الذين يخلقون تلك الفرص.
والنواة الأخلاقية لفيلم "فهرنهايت 9/11" تجسدها صورة مؤلمة مزعجة لأمّ شجّعت أطفالها على الانضمام إلى الجيش لأن الانضمام إلى الجيش هو السبيل الوحيد الذي يمكّنهم من دفع تكاليف تعليمهم، وصورة