دعا العاهل السعودي يوم السبت الموافق 30 من شهر أكتوبر الماضي الرئيس العراقي وجميع الأحزاب التي شاركت في الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة وجميع الفعاليات السياسية العراقية إلى الرياض بعد موسم الحج، للسعي تحت مظلة الجامعة العربية إلى "حل المعضلات التي تواجه تشكيل الحكومة العراقية" بعدما تأخر كثيراً منذ انتخابات مارس الماضي، و"لتتدارسوا وتتشاوروا وتقرروا أي طريق نبيل تسلكون". المبادرة سعودية إذن، ولكنها قدمت تحت مظلة الجامعة العربية، وهو ما يتسق مع إشادة الأمين العام للجامعة بها. ولذلك فقد كانت مبادرة "عربية" بحق تواجه ما هو موجود على الساحة العراقية من تدخلات إقليمية وعالمية. جرى "العرف العربي" في هذه الحالات على معاملة هذا النوع من المبادرات إذا تطلب الأمر بنوع "من المجاملة"، بمعنى أن الرافضين لمبادرة ما لا يؤثرون الجهر برفضهم درءاً للحرج، وإنما يشاركون لإفشال المبادرة، فإن تعذر عليهم ذلك قبلوا ما تنتهي إليه المباحثات بالمنطق نفسه، لكن سرعان ما تتضح مماطلتهم في التنفيذ وخروجهم على ما تم الاتفاق عليه. وتقدم لنا المصالحة الفلسطينية بين "فتح" و"حماس" التي تمت برعاية سعودية في أعقاب الانشقاق الدموي بين الفصيلين في 2007 مثالاً واضحاً في هذا الصدد. ولكن الأطراف العراقية المعنية في حالتنا هذه خرجت عن هذا العرف، وحسناً فعلت لأنها أتاحت لنا بذلك فرصة ثمينة للتأمل فيما آلت إليه أوضاع العراق خاصة والنظام العربي عامة. كان واضحاً منذ الوهلة الأولى أن ثمة استقطاباً سياسيّاً قد ميز المواقف العراقية من المبادرة، فالأطراف المحسوبة على العرب والعروبة كـ"القائمة العراقية"، أو المنشقة على المالكي كـ"المجلس الأعلى الإسلامي" سارعت إلى إعلان ترحيبها بالمبادرة وتأييدها لها، بينما كان واضحاً أن الأطراف الأخرى المحسوبة على إيران وعلى رأسها ائتلاف "دولة القانون" بزعامة المالكي والتحالف الكردستاني تبحث عن مخرج ينقذها من ورطة المبادرة. وقد ظهر هذا من ردود الفعل الأولى لهذه الأطراف، فقد صرحت مصادر قريبة من المالكي بأن موقف "دولة القانون" من المبادرة سيتحدد من خلال اجتماع تعقده الكتلة خلال يومين، وذكر قيادي في التحالف الكردستاني أن المبادرة "مفاجئة وجديدة" وتوقع أن تقوم جميع الكتل البرلمانية بدراستها خلال أيام. وأضاف أن المبادرة قد تؤدي إلى الضغط على هذه الكتل لتقديم تنازلات سريعة، وأضاف أن ثمة اجتماعاً للبرلمان قبل عيد الأضحى، فإن استمر الفشل في الاتفاق على توزيع الرئاسات الثلاث "ربما نذهب إلى الرياض". لكن لحظة الحقيقة لم تتأخر كثيراً فلم يأت يوم الثلاثاء الموافق الثاني من الشهر الجاري إلا وقد أُعلن رفض التحالفين الكردستاني والوطني المبادرة باعتبارها جاءت متأخرة، وتزيد المشهد السياسي العراقي تعقيداً، وذكر التحالفان في بيان مشترك أن تشكيل الحكومة سيتم عبر مبادرة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني من أجل الوصول إلى حكومة شراكة وطنية. وتناثرت بالإضافة إلى هذا البيان تصريحات هنا وهناك وبالذات من مصادر ائتلاف "دولة القانون" تتحدث عن أن تشكيل الحكومة العراقية ينبغي أن يتم "داخل العراق"، وهو قول طريف، ففيمَ كانت الهرولة الجماعية إلى إيران إذن منذ إعلان نتائج الانتخابات من جانب قوى سياسية عراقية محددة على رأسها ائتلاف "دولة القانون"؟ ومن تراه الذي رعى المصالحة بين المالكي والصدر المقيم في إيران؟ بل لماذا كانت جولة المالكي الأخيرة في الدول العربية وتركيا طلباً لمساندة "مشروعه السياسي" للاستمرار في منصب رئيس الوزراء؟ أما القول إن المشاورات قد قاربت على الانتهاء فهو قول تعوزه الدقة، لأنه حتى إذا انتهت المشاورات وفق النهج الحالي المتبع من "دولة القانون" والتحالف الكردستاني فلا أمل كبيراً في أن تحقق حكومة العراق القادمة استقراراً للعراق يمكنه من بدء العملية الشاقة لإعادة البناء. أجهضت المبادرة السعودية إذن، ولكن ذلك لم يحدث لأنها "سعودية" وإنما لأنها "عربية"، وبالتالي فإن إجهاضها جزء لا يتجزأ من لعبة النفوذ الإقليمي في الساحة العراقية، وعلى هذا النحو تأكد فقدان النظام العربي أي أوراق مؤثرة في هذه الساحة، ولنتذكر كيف غُرر بهذا النظام على الصعيد الرسمي في أعقاب الغزو الأميركي الذي يفترض أن قمة شرم الشيخ العربية في أول مارس 2003 قد عارضته من حيث المبدأ، وأن مجلس وزراء الجامعة العربية على المستوى الوزاري الذي انعقد في الشهر نفسه إبان العمليات العسكرية للغزو قد اتخذ قرارات قوية ضده، فطالب بانسحاب القوات المشاركة فيه، وهدد باللجوء إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أننا فوجئنا في أول مجلس وزاري ينعقد بعد الغزو في سبتمبر 2003 بأن النظام العربي الرسمي يعطي شرعية لحكومة الاحتلال، ويعتبر ممثلها ممثلاً للعراق في جامعة الدول العربية في سابقة كانت الأولى من نوعها في تاريخ جامعة الدول العربية بغير سند من القانون الدولي. وفي ذلك الوقت كان الغزاة والقوى السياسية العراقية المناصرة لهم بحاجة إلى "شرعية عربية"، ولذلك كان السعي إلى كسب الاعتراف من النظام العربي، وعندما استجاب المجـلس الوزاري العربي في دورة سبتمبر 2005 للهواجس السعودية التي عبرت في حينه عن المشاعر العربية عامة بخصوص ما آلت إليه الأوضاع في العراق من تأثير إيراني على مجريات الأمور فيه وقرر المجلس إيفاد الأمين العام في مهمة إلى العراق كانت الأوضاع قد تغيرت، وعارضت الزيارة تلك القوى التي دعمت الغزاة وأيدتهم، لكن الأمين العام قام بزيارته، وأتمها بحنكة ظاهرة، وشرع في الإعداد لمؤتمر عراقي وطني فعلت تلك القوى المستحيل لكي تجهضه، ونجحت بالفعل في أن توقفه عند حد الاجتماع التمهيدي. أما الآن فمن غير المسموح أصلاً للنظام العربي أو لدولة تقوم بدور قيادي فيه "بالتدخل" في الشأن العراقي على رغم كل ما نراه من إخفاق سياسي ينعكس على استقرار هذا البلد العربي الأصيل وازدهاره. فإلى أين المصير؟ سيقولون إن هذا الموقف لا يعدو أن يكون انطباعات بنيت على تصورات ذاتية بغير سند صلب من الحقائق، وأتمنى أن يكون هذا النقد صحيحاً، ولكن الوقائع كما أرى ويرى الجميع صادمة، والأخطر من ذلك أن ما يجري في العراق الآن بفعل الغزو الأميركي والتدخل الإيراني يحدث بالطريقة نفسها في معظم الملفات العربية المزمنة منها والساخنة إن لم يكن فيها كافة. وملف الصراع العربي- الإسرائيلي موكل إلى الإدارة الأميركية التي ثبت عجزها من البداية، ناهيك عما سيطرأ على سلوكها بعد ما جاءت به نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس من تراجع واضح للحزب "الديمقراطي". ليس العراق وحده إذن هو من يعاني من تراجع النظام العربي وتفككه وهوانه على باقي القوى الإقليمية والعالمية.