لا يمكن ذكر تاريخ محدَّدٍ لظهور مصطلح وممارسات "الإسلام السياسي" في البلاد العربية. لكنّ المصطلح صار مألوفاً بالتدريج في الكتابات عن الجماعات الإسلامية التي مارست أعمالاً عنيفةً باسم الإسلام ضد السلطة في مصر وسوريا، في سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى قتل السادات في 6 أكتوبر 1981 على يد جماعة "الجهاد". بيد أننا إذا تجاوزْنا هذا المصطَلَح قليلاً، ونظرنا في الساحة السياسية العربية، نجد أنّ الاهتمامات الدينية أو الإسلامية بالشأن السياسي، ارتبطت ولحوالي نصف قرن بجماعة "الإخوان المسلمين" التي تأسَّست بمصر على يد البنا عام 1928. وفي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تأسست لـ"الإخوان المسلمين" فروعٌ بأكثر دول المشرق العربي ثم بالخليج. وهناك مرحلتان في عمل "الإخوان" والجماعات المشابهة؛ الأُولى غلبت فيها الاهتماماتُ الوطنيةُ العامة، والاهتمام الأكبر بأسلمة الحياتين الخاصّة والعامة. والثانية غلب فيها الاهتمامُ السياسيُّ على الاهتمامات الأُخرى. ويمكن تحديدُ العام 1954، عام الصِدام بين الجماعة ونظام ثورة يوليو، باعتباره الحدَّ الفاصل بين المرحلتين. وتتميز المرحلة الثانيةُ هذه بظهور نظريةٍ للدولة والنظام السياسي، هي التي عُرفت باسم الحاكمية، بينما سمّاها آخرون في الستينيات والسبعينيات بالنظام الإسلامي الكامل. وبغضّ النظر عن أُصول تلك النظرية والتباساتها؛ فالأهمَّ أنه تشكّلت قناعةٌ عميقةٌ لدى نُخَبٍ في شتّى بقاع المشرق ثم المغرب العربي، بأنّ الأنظمة السياسية الحديثة، بسبب جذورها الغربية، الرأسمالية والشيوعية والقومية، لا تتوافقُ مع الإسلام ومصالح المسلمين، وأنه لابد من إقامة الدولة الإسلامية التي تُطبِّقُ الشريعة. ولا شكَّ أنّ هذه الرؤية العقائدية، تأثرت بظروف الحرب الباردة، وتأثيراتها في انقسام العالم العربي بين المعسكرين، حيث كثُرت الأدبيات التي تُدينُ الأفكار القومية والاشتراكية، بعد أن كانت الكتاباتُ الاُولى- قبل الصِدام مع أنظمة الضباط- تُركّزُ على إدانة الرأسمالية المُغطّاة بالديمقراطية المعلمنة. وعلى أي حال، فالديمقراطيات الشعبية، والأُخرى التمثيلية (المعبِّرة عن سلطة الشعب) وثنيةٌ وشِركٌ وتجديفٌ على الله! ويمكن اعتبارُ الستينيات والسبعينيات، فترة مخاضٍ وتحوُّلٍ لإسلاميي المشرق العربي على الأقلّ، من النواحي النظرية والعملية. فقد شهد هذان العقدان صِداماً ثانياً بين النظام المصري و"الإخوان" عام 1965، ثم اصطدم "الإخوان" السوريون بالنظام السوري عام 1976 وما بعده؛ وخلال ذلك ظهرت في السبعينيات عدة جماعاتٍ عنيفةٍ بمصر، على هوامش "الإخوان المسلمين". لكنْ في الوقتِ نفسِه عرف "الإخوان" بعضَ الراحة مع النظام لفترة سبع أو ثماني سنوات، وأمكن لهم الانتشار في الجامعات والنقابات المهنية، وكانت تلك التجربة أساسيةً بالنسبة لهم، وهي ما تزال تحكم تصرفاتهم إلى حدٍ بعيدٍ حتّى اليوم. وقد اعتدتُ منذ كتابي الأول عن "الإسلام المعاصر"، الصادر عام 1987، على التمييز في المجال العربي على الأقلّ بين التيار الرئيسي والجماعات الجهادية. أما الأول، والذي ينضوي تحته معظمُ "الإخوان المسلمين" والجماعات المتأثّرة بهم، فهو يمارسُ العمل السياسيَّ ضمن النظام للمُضيّ في أسلمة المجتمع والدولة. وأمّا الآخَرُ العنيفُ فقد مضى في مسالك مختلفةُ وصارت "القاعدةُ" هي نموذجه بعد الحرب الأفغانية في الثمانينيات. لذا فعندما نتحدث عن "الإسلام السياسي" منذ الثمانينيات، يكون المعنيُّ به أولئك الذين يمارسون أعمالاً سياسيةً لا تتوسَّلُ العنف سبيلاً للوصول إلى أهدافها، بيد أنّ هدفَها الرئيس يبقى إضفاء الطابع الإسلامي الخالص، شعائرَ وعباداتٍ وأنظمةً ورموزاً، على الحياتين العامة والخاصة، أو التوصل إلى إقامة الدولة الإسلامية التي تُطبِّقُ الشريعة. منذ مطلع الثمانينيات إذن أقبلت جماعاتُ الإسلام السياسي في مصر والأردنّ والكويت واليمن على التعامُل مع الأنظمة السياسية القائمة باعتبارها واقعاً، فدخلت في هيئات ومؤسسات المجتمع الأهلي والمدني، وشاركت في الانتخابات حيث أَمكنَ لها ذلك. ولا حاجة لذكر التفاصيل هنا، فالمعروفُ أنّ "الإخوان المسلمين" بمصر ما يزالون محظورين، وقد كانوا يترشحون تارةً كمستقلين، وتارة بالتحالف مع أحزابٍ أُخرى مُرخصة. بيد أنّ هذا التطور البارز المتمثّل بأمرين: نبذ العُنْف بشكلٍ مطلق، وممارسة العمل السياسي والنقابي ضمن الأنظمة المرعية، ما ترافق مع تطورٍ سريعٍ في التفكير السياسي تُجاه الدولة المدنية والديمقراطية، والتمييز الواضح في العمل السياسي بين المصالح والعقائد الدينية. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب: الأصول العقائدية لحركتهم الفكرية والسياسية. فهم منذ أيام حسن البنّا يعتقدون أنّ "الإسلامَ دينٌ ودولةٌ، ومصحفٌ وسيفٌ". ونحن نعرف أنه يدور جدلٌ قانونيٌّ في هذه الأيام بمصر على مشارف الانتخابات النيابية أواخر هذا الشهر، على الشعار الذي يُصرُّ عليه "الإخوان" الذين يترشّحون كمستقلّين: "الإسلام هو الحلّ". والسببُ الثاني الذي من أجله ما تقدمت نقاشاتُ التمييز بين الدين والدولة في تفكيرهم وممارساتهم أنهم يعتقدون أنّ هدف إقامة الدولة الإسلامية أو النظام الإسلامي، له جاذبيةٌ شعبيةٌ كبيرةٌ، ولا يجوزُ التخلّي عنه من أجل ذلك. والسببُ الثالث ممارسة الأنظمة التي لا تُشجّعُ على الدمقرطة، إذ ليس هناك تداوُلٌ على السلطة، ولا حكم قانون، ولا انتخابات حُرّة ومنتظمة. وقوانين الطوارئ ساريةٌ منذ عقودٍ في عدة بلدانٍ عربية. وهذه الأمور كلُّها لا تدفعُ باتّجاه الانفتاح على الأفكار الجديدة والممارسات الأُخرى رجاءَ الحصول على فائدة سياسية من وراء ذلك. والسببُ الرابعُ "ثقافيُّ" إذا صحَّ التعبير. فما تزال النزعاتُ المعاديةُ للتغريب، والمشدِّدة على الأسلمة الكاملة، تنشر فكراً مُحافظاً بين العامة من الناس، يربطُ من الناحية الأخلاقية بين الديمقراطية والعلمانية والتفكُّك والانحلال. بيد أنه لا ينبغي أن نُبالغَ في الربط بين السياسات الثقافية والثقافة السياسية. فمنذ مطالع التسعينيات تدور نقاشاتٌ في أَوساط الإسلاميين الذين يمارسون العمل السياسيَّ، وفي مصر والأردنّ وسوريا (إنما في المنفى) والمغرب وتونس والجزائر بشأن الدولة المدنية وحكم القانون، وهل يتعارضان مع الإسلام. ثم إنّ الإقبال الشعبيَّ على دُعاة الإسلام السياسي، شجَّع بعض غير الجامدين عقائدياً من قادتهم على الانفتاح على فكرة سلطة الشعب، وسلطة الأكثرية ومرجعيتها. ووصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة بتركيا في انتخابات حرة عام 2003، وبقوة جمهور الناخبين، أعطى الإسلاميين العربَ المترددين بشأن الديمقراطية، فكرةً وأَمَلاً في إمكان الوصول للمشاركة القوية عبر صناديق الاقتراع. والبيانات والوثائق المتكاثرة منذ عام 1994 تشير إلى أنّ أفكار التداول السلمي على السلطة، والديمقراطية، وحكم القانون... تجد صدىً واسعاً لدى جمهور الإسلاميين. وقد حصل تقدمٌ ملحوظٌ لهذه الجهة في السنوات الأخيرة في أوساط الأحزاب الإسلامية بالمغرب العربي. ما هو الوضع الآن؟ الوضعُ الآن، أنه فيما عدا المغرب؛ فإنّ الأحزاب الإسلامية هي أحزابُ المعارضة الرئيسية على الساحة السياسية. بيد أنّ قوة تيارات الإسلام السياسي، ليست ناجمةً حصراً عن التمسُّك الرمزي بالدين، بل ولأنها بسبب انفرادها تقريباً بمصارعة الأنظمة القائمة، تمثّل اتجاهاً نحو تغيير صار ضرورياً. كنتُ قبل أيام أتحدث إلى أحد قادة الإسلاميين بالجزائر، فذكرْتُ قول رفيق الحريري إنّ الناسَ إنما ينشئون دُوَلاً وأنظمةً لتحسين شروط حياتهم، وصَون مصالحهم الوطنية والقومية، فقال: رحم الله الحريري، أين هي الأنظمةُ العربيةُ التي تصونُ المصالح الوطنية والقومية؟ لقد آنَ أوانُ التغيير، بل إنه صار ضرورياً منذ أكثر من عقدين!