منذ زمن ليس ببعيد، زرت ابنتي التي كانت تدرس في العام الأول بإحدى المدارس الثانوية بمناسبة عقد اجتماع لمجلس الآباء بتلك المدرسة. ومثلي مثل كافة الآباء من الجيل الذي أنتمي إليه، تم تذكيري خلال ذلك الاجتماع بأنني كنت محظوظاً عندما تقدمت للالتحاق بالجامعة، فمعايير القبول آنذاك كانت أقل كثيراً وأقل صرامة مما هي عليه الآن. وهذه المسألة ذاتها ترددت على مستوى آخر، وذلك عندما كنت أتأهب لحضور اجتماع آخر لمجلس الآباء عقد في عطلة نهاية أحد الأسابيع. ففي ذلك الاجتماع شعرت بأنني لست مسؤولاً عن مستقبل ابنتي فقط، وإنما عن مستقبل 1182 طالبا آخر، ممن قام آباؤهم بإلحاقهم في جامعة هافارد التي تصادف أنني كنت أعمل رئيساً لها. فبعد ثلاثة عقود كأب، وثلاث سنوات ونيف كرئيس لكلية مرموقة، فإنني لا زلت لا أعرف كيف أصبح شخصاً جديراً بأن يكون أباً لطالبة في مدرسة. فخلال تعاملي مع ابنتي التي أصبحت بالغة الآن شعرت أنه من الصعب عليّ الامتناع عن التدخل في شؤونها من خلال توجيه عبارات مثل:" هل فكرتِ في كذا...؟"، أو، " هذه هي الطريقة الصحيحة لعمل هذا الشيء أو ذاك..."، أو "هذه أسوأ العبارات التي يمكن توجيهها" ما رأيك لو قمت بزيارة للمدرسة للتعرف على مستواك والتشاور مع معلميك...؟". هذه هي نوعية العبارات التي وجدت نفسي أنزع نحوها أنا أيضاً على الرغم من كوني رجلاً تربوياً، وعلى رغم من أن ابنتي كانت متفوقة، وشديدة الذكاء، وتتمتع بشخصية مستقلة، قادرة على التعامل مع كافة الأشياء التي تعترض طريقها بمفردها، دونما حاجة لمعونة من أحد، كانت تواجه كافة محاولاتي للتدخل بعبارة واحدة "أشكرك يا أبي... ليست هناك حاجة لذلك". فنحن معشر الآباء نريد أن نمارس نوعاً من السيطرة على مجريات الأمور من أجل مصلحة أبنائنا، وهو في حد ذاته أمر قد يعتبره الكثيرون مبرراً؛ ولكن ماذا يحدث إذا اتخذنا خياراً خاطئاً؟، وماذا يحدث إذا أدت محاولاتنا للتحويم فوق أبنائنا إلى التأثير على ما هو أكثر، من راحة البال التي يجب أن ننعم بها، أو ينعم بها آبناؤنا؟ وماذا يحدث إذا كان الميل للتحويم فوق حياة أبنائنا أكبر خطيئة لجيلنا؟ وماذا يحدث إذا أدت تلك الخطيئة - التي نظنها شيئاً جيداً - إلى تأثيرات طويلة الأمد على أطفالنا الذين تعلموا كيف يكونوا مستقلين ذاتياً؟ ولا يخلو الأمر من قيامي بالتساؤل إذا كان قلقي الأبوي، ورد فعل ابنتي يعكس في طياته تحولاً ثقافياً أكثر مدى وأوسع نطاقاً، يجب عليّ أن أكون متنبهاً له سواء كأب، أو كرئيس لكلية مرموقة؟ لقد كت أقول لنفسي:" ربما أن أبناءنا يفهمون العالم على نحو مختلف عنا!، وهو اعتقاد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنا وليس بهم؟ انظر للطريقة التي يتعامل بها أبناؤنا مع الإنترنت، وكيف يقومون من خلاله بخلق موزاييك شخصي من المعلومات والنظرات المعمقة في شؤون العالم مكنهم من الاندماج به على النحو الذي يرونه به. ثم انظر أيضاً كيف يتعاملون مع الإنترنت بيسر، ودونما عناء وبطريقة فريدة في الحقيقة من أجل تكوين صورة أكبر عن الأشياء، وعن العالم، لا توفرها سوى الإنترنت. أما جيلي، فيفضل أن تكون المعلومات والبيانات منسوبة لمؤلفين محددين، وأن تكون الأفكار مجمعة على هيئة حزم، سواء أكانت أفكاراً عامة أو أفكاراً تتعلق بأشياء محددة. ولعل هذا هو الفرق الرئيسي بين جيلنا الذي نشأ وترعرع على التلفزيون - الذي يتميز بأنه ذو طبيعة خطية؛ أي أنه يسير في خط مستقيم تقود كل مرحلة فيه للمرحلة التي تليها، وتكون الأفكار فيه مرتبة على هيئة حزم من الأفكار، موجهة للمجموع، وليست على هيئة أفكار فردية موجهة للفرد - وبين الجيل الجديد الذي نشأ وترعرع على شبكة الإنترنت الذي يعتبر بحكم تعريفه ذا طبيعة تجزيئية. وهذا الوضع جعلني أتساءل: هل نقوم بالتحليق من فوق أبنائنا، لأننا حائرون ونصارع من أجل التعامل مع هذا الجيل الجديد والشجاع؟ وعندما كنا نتعامل وفق معادلة (الكبير/الصغير) كنت أقوم- وهو شيء يجب أن اعترف به - بالتحليق فوق فضاء ابنتي باعتباري أنا الكبير الناضج، وهي الصغيرة التي لم تزل غير مدركة للكثير من شؤون الحياة، أما اليوم فأجد نفسي واقفاً بجوارها في نفس الصف. وهذا في جوهره تغيير مدهش في الحقيقة. وفي الوقت الذي تستمر فيه رحلتنا في هذه الحياة، فإننا نحن جيل الآباء سنكتشف أن دورنا بالنسبة لحياة أبنائنا لا يزال يتغير أي أنه لن يتغير مرة واحدة ويثبت على ذلك، وإنما سيكون على الدوام في حالة تغير. وهو ما يعني أنه قد يأتي يوم نكتشف فيه أننا قد تخلفنا عنهم، وأنهم هم الذين يقودون الطريق. وإذا حالفني الحظ، فإنني سأبذل كل ما يمكنني بذله من أجل جعل طلابي مستقلين، وناضجين وقادرين على إدارة شؤون حياتهم دونما تدخل من أحد. وأتمنى أن يكون التوفيق حليفهم، لأن عالمنا الجديد سيكون في حاجة لجميع المهارات، وجميع العواطف، وجميع الحساسيات التي سيتعين عليهم تقديمها لعالمهم المعاصر. ستيفن جيه.إيمرسون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس جامعة هارفارد ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"