مجتمع الإمارات بعد "البلاك بيري" لم يعد هو نفسه ما قبل انتشار هذا الجهاز بين أفراده. ويبدو أنه لم يذهب إلى الأفضل، لا لعيب في الجهاز، وإنما في استخدامه في تحطيم الأشخاص والحطّ من كرامتهم والمسّ بأعراضهم وإفشاء أسرارهم، وهي جرائم يُعاقب عليها القانون، كالسبّ والقذف وإفضاء الأسرار وازدراء طائفة من الناس، ناهيكم عن استخداماته السيئة الأخرى، كنشر الشائعات وبثّ الأخبار المغرضة وتبادل الترّهات. لكن أيُّ استخدام سيئ لهذا الجهاز لا يُعادل في رأيي استخدامه اللافت في الآونة الأخيرة في تحطيم الأشخاص، إذ عُرف عن هذا المجتمع أنه مجتمع طيب ومسالم ويحفظ الحرمات ويصون الأعراض، وهو ما يتنافى تماماً مع ظاهرة تحطيم الأشخاص التي بدأت تنتشر بين أفراده، ومع أول جهاز يصعب تتبعه ومراقبة ما يدور فيه. بعض مَن أصبحوا علكة في أفواه هذه الأجهزة ومادة للسخرية والاستهزاء، كانوا قد أدلوا بكلام أو تعليقات أو صدرت منهم مواقف لم تعجب المجتمع أو بعض أفراده. وخلال أيام قليلة كانوا، بأسمائهم الصريحة والكاملة، وصور جوازات سفرهم أحياناً، وأرقام هواتفهم وأرقام سياراتهم، مكشوفين في آلاف الأجهزة، مصحوبة بنكات لاذعة وكلمات جارحة وعبارات بذيئة، وأحياناً مقاطع تماثل الموقف الذي أقام دنيا "البلاك بيري" عليهم ولم يقعدها. مع تكرار مثل هذه الأمور، واعتياد المجتمع عليها، ونشوء أجيال جديدة ترى وتسمع وتكبر على هذه الأشياء باعتبارها وسيلة للانتقاد أو للانتقام أو للتسلية أو للعبث وتضييع الوقت، فربما نشهد موتاً جماعياً للضمائر، وسقوطاً لحرمات الناس، وسهولة في التطاول على الأعراض والإساءة للعائلات، وسيهون كل شيء في سبيل الضحك والاستهزاء وتقوية الصلات بين المرسل والمتلقين على حساب كرامة وأعراض الآخرين. وسيصبح المجتمع كله، أو على الأقل فئة كبيرة منه، مجتمعاً من فاقدي الصواب وغير الواعين لخطورة تصرفاتهم. وربما غداً يتعاون أفراد كثر لا يعرف بعضهم بعضاً إلا من خلال "البلاك بيري" على هذا الإثم والعدوان على شخص أصبح ضحية من ضحاياهم لسبب من الأسباب، أو لهفوة من الهفوات، أو لسوء تقدير منه في قول أو فعل، أو لخطأ بسيط يمكن أن يقع فيه كل البشر، فيتبرّع أحدهم بكشف حسابه البنكي، وآخر يضع سجله الجنائي، وثالث يعرض حالته الاجتماعية منذ أن ولدته أمه، ويتنافس كل واحد منهم في عرض كل ما تطاله يده من بيانات شخصية وأسرار عائلية، وهكذا حتى لا يجد معها الضحية إلا التواري عن الأنظار، وربما اللجوء إلى الانتحار، أو الإصابة بالجنون والأمراض النفسية. والقضية لا تنحصر في شخص مصدر التعليق الأول، أو الذي أطلق الكلمة الجارحة الأولى، أي ليس في نواة السوء الأولى، وإنما تشمل كذلك الخلية التي استلمت وأرسلت ووضعت أثناء ذلك كل ما يخطر ببالها من إساءة وبذاءة، ثم في الشريحة الأكبر التي قامت بدورها في الإرسال إلى شريحة أكبر في غياب أي شعور أو حس أو ضمير. بالإضافة إلى اشتراك من يعدّون أنفسهم مجرد متلقين، ومجرد مرسلين، من دون أن يضيفوا حرفاً واحداً، كأنّ هذا يعفيهم من المسؤولية أمام الله، والقانون، وصوت ضمائرهم.