دائماً ما تترافق كلمة الفوضى بالهدم والعبثية والتدمير، لكن مصطلحاً جديداً أطلقته الإدارة الأميركية السابقة كان نقيض هذا تماماً، فها هي الفوضى لديهم تصبح خلقاً جديداً وجميلاً أفضل مما سبق، وإن كان عبر الفوضى والعبث، طبقت هذا الإدارة الأميركية السابقة في العراق، ولكن الثمن كان غاليّاً في منطقة تكره أميركا وسياساتها، وتعلمت الإدارة الجديدة من سابقتها ألا تقترف نفس الأخطاء، لكن ما تغير هو الطريقة فقط، وبقيت الأهداف والرغبات. في العراق الذي كان يُبشر في ربيع عام 2003 بأنه سيكون مفتاح التغيير بالمنطقة، دفعت أميركا أثماناً باهظة لهدف لم يتحقق لأسباب عديدة، وعندما تولت إدارة أوباما الحكم في أميركا، تبنت نفس أهداف الإدارة السابقة وإن بوسائل مختلفة. هم يظنون أن إبقاء الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط والعالم العربي كما هي، سيزيد من فرص توالد الإرهاب والإرهابيين، وأن مصلحة أميركا أن تجد دولاً قوية داخليّاً حتى تستطيع القضاء على مخاوف الغرب من الإرهاب العربي الإسلامي كما يصفونه، وهذا لن يتحقق في رأي الإدارة الأميركية مع بقاء البطالة مرتفعة والأجور منخفضة والآمال بحراك الطبقات معدومة، والأثرة وانعدام الشفافية متفشية في اعتقاد الإدارة الأميركية والغرب ككل، وأنَّ ضعف الأنظمة العربية في هذه النواحي وحتى إن كانت قبضتها الأمنية حديدية مُطبقة، سيؤدي إلى تفكك الدول العربية والإسلامية، وسيطرة القوى الإسلامية المتطرفة بالتالي، والتي لديها مشروع جذاب -حقيقي وغير حقيقي- لكل أمراض المجتمع حسبما تصف برامجها تلك القوى المعلنة عن نفسها أو المستترة. لهذا فأميركا والغرب لديهما الرغبة في تغيير سريع من داخل الأنظمة العربية المستقرة عقوداً، قبل أن تأتي رياح العمائم بخيرها وشرها؛ وقد أوضحت هذا وزيرة الخارجية الأميركية صراحةً قبل يوم من سقوط بن علي في تونس وهي تحاضر في منتدى عُقد في الدوحة. قالت: على حكومات الدول العربية الصديقة أن تغير من جلدها القديم، وأن تعطي بعض الآمال لشعوبها حتى لا تتفاجأ أميركا والعالم وهذه الدول بالتطرف يداهم بيوتها، وأن أميركا ستعمل مع "الخيرين" لتحقيق هذا. ما هي أسلحة الحكومة الأميركية منذ خطاب الرئيس الأميركي في جامعة القاهرة صيف 2009، والذي وجه للعالمين الإسلامي والعربي، واختص في كثير من فقراته الشأن الداخلي في هذين العالمين؟ أول الأسلحة هو الاتصال بالنخب السياسية المعارضة وخاصةً ممن يمثلون الأجيال الشابة منها، وذلك بدعوى التواصل الاجتماعي مع قوى المجتمع المدني، وترافق هذا مع حملة إعلامية عبر وسائل الإعلام الغربية وجهتها النخب السياسية في بعض بلدان العالمين العربي والإسلامي، ولم تكن تلك الاتصالات لمجرد تبادل الآراء، بل لإرشاد شباب الأحزاب المعارضة لاستخدام أجهزة الاتصال الحديثة والتقنية في التواصل القادم الذي يحدد زمانه من أجل التغيير المحسوب والمطلوب. أما السلاح الرهيب الذي في يد الإدارة الأميركية لخلق الفوضى الخلاقة وصنع واقع عربي جديد يأتي بحكومات شابة مؤهلة لها هوى غربي، وتقطع الطريق على الاتجاهات الإسلامية المتطرفة المتحفزة للقفز لتفسر الفراغ السياسي المحتمل. السلاح الفتاك في يد الغرب هو قلة الحيلة وقصر النظر عند كثير من النخب السياسية الحاكمة في بلدان العالمين العربي والإسلامي، فهم يديرون أزمات بلدانهم الخائفة اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً بعقلية خمسينيات القرن الميلادي الماضي، وكأن الزمن قد توقف عند الحروب الباردة والإدارة الجامدة لأزمات مجتمعاتهم، وبهذا أعطى الغرب ومن يتحاور معهم سرّاً وعلانية وأجهزة الإعلام الشقراء دعماً ودافعاً للعمل وللقول الذي يسبقه ومفاده: ها هي إدارتكم وها هي قلة حيلتهم المزمنة، وبهذا تلتقي رغبات المعارضة في كل دولة عربية على حدة، مع رغبات معلنة تُخفي أهدافاً بعيدة للإدارة الأميركية ومعها العالم الغربي تقريباً. الرغبات هي التغيير بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن الهدف الغربي أبعد من هذا التغيير، المطلوب به إن حقق أهدافاً محددة، أحدها إزالة الترهل في الإدارة العربية للأزمات التي قد تأتي بفلول "القاعدة" والمنظمات المتطرفة الأخرى، ولن تتحقق عملية إزالة الترهل هذا إلا بذهاب السبب والمسببات في رأي هذه الإدارة وإتيان تكنوقراط وطليعة الطبقات المتوسطة في العالمين العربي والإسلامي، ومن ضمن الأهداف: أن يأتي الهم المحلي سابقاً وبمراحل على الهم القومي والديني نحو قضايا معينة، أهمها قضية فلسطين وقضايا وطنية أخرى، فمن الذي -مثلاً- يتحدث الآن في تونس المحملة بالهموم عن قضية القدس واللاجئين الفلسطينيين؟ ومن المشغول الآن في قاهرة المعز بالإجابة عن أسئلة الحل النهائي للقضية الرئيسية لأكثر من مليار مسلم؟! ستنشغل كل عاصمة عربية بهمها الداخلي وكيفية إدارة أزمات طوفان المظاهرات والاحتجاجات. ولكن، ما هي حظوظ نجاح خطط الفوضى الخلاقة كما تتصورها الإدارات الغربية؟ جربت هذه الإدارات بفشل ذريع الخطط المرسومة لأشكال الفوضى الخلاقة في أفغانستان والعراق وفي لبنان لأسباب عديدة مختلفة، ودفعت أثماناً سياسية واقتصادية، وفي الأرواح الكثيرة لجندها وعتادها. إنَّ أحسن مكان لتطبيق خطط الفوضى الخلاقة الغربية والأمر كذلك هو بلدٌ عربي بعيد إلى وقت قريب عن وسائل الإعلام، ولا تحظى قيادته لا بعصبية دينية ولا عرقية ولا قبلية، وجذوره غير ضاربة في الأرض المحلية، وقد كان هذا المكان (تونس) ونجحت أيما نجاح أولى خطوات مشروع الفوضى الخلاقة في هذا البلد المغاربي. ولكن الذي لا تعلمه إدارات الفوضى الخلاقة هو أن الفوضى قد لا تقود القوارب الوطنية إلى موانئ الغرب ومواقع فنارات شمال البحر الأبيض المتوسط وغربي الأطلسي، بل قد ترسو تلك القوارب في شواطئ ترفع شعارات دولة وزيرستان وما ارتبط معها سرّاً وعلانية، وفي هذا مفارقة مُضحكة والدلائل العراقية خير مثال، وما بين الأهداف الغربية البعيدة وما هو حاصل على أرض الواقع من رغبات في التغيير وذهول ممن تُرفع في وجههم شعارات وصيحات المتظاهرين، تعيش دول كثيرة عربية وإسلامية أيام الفوضى الخلاقة التي تحقق نصفها فقط هذه الأيام.