الفلسفة التي يرتكز عليها نظام "التجنيد الإلزامي"، الذي تطبّقه كثير من دول العالم، تنطلق من أنه ليس مجرد تعبئة عسكرية بقدر ما هو ثقافة وتنشئة اجتماعية وتربوية يمكن أن تسهم بدورها في بناء شخصية الشباب وصقلها، لكي تكون أكثر انخراطاً ومشاركة في قضايا المجتمع. فالمفهوم التقليدي لـ"التجنيد الإلزامي"، الذي كان يقوم على اختيار نخبة قليلة من الشباب لتتعلّم مبادئ الإجراءات العسكرية لمدة محددة، وبعد ذلك تنقل إلى قوات الاحتياط، ويمكن استدعاؤها عند الضرورة لمساعدة قوات الجيش الأساسية في أوقات الطوارئ والأزمات، لم يعد قائماً بهذه الصورة، وإنما أصبح المفهوم الجديد الذي بدأت تطبّقه الكثير من دول العالم في السنوات القليلة الماضية يركّز على أبعاد جديدة ترتبط ببناء الشباب وتنشئتهم وتأهيلهم والارتقاء بقدراتهم لإعدادهم للانخراط في الحياة العملية، على أساس أن المؤسسات العسكرية، وما تتميّز به من صفات كتحمّل المسؤولية والانضباط والحسم والشجاعة، هي المكان الأمثل لتنشئة الشباب وإعدادهم للمستقبل. تجارب كثير من الدول تشير إلى أنه يمكن تعظيم الاستفادة من "التجنيد الإلزامي"، خاصة إذا ما تمّ وضع الضوابط اللازمة لتنظيمه، والتي من شأنها تحفيز الشباب على الإقدام عليه، سواء بتقليل الفترة التي يقضيها هؤلاء كأن تتراوح مثلاً بين ستة أشهر أو عام على أقصى تقدير، على أن تضاف هذه المدّة إلى خدمتهم المدنية والوظيفية في ما بعد، أو من خلال المزايا المادية التي يمكنهم الحصول عليها خلال هذه المدة، بحيث لا تقلّ عن مستوى الرواتب التي قد يحصلون عليها في الوظائف التي يشغلونها في أي من مؤسسات القطاع العام أو الخاص فور تخرجهم. الرؤية الجديدة لـ "التجنيد الإلزامي" في كثير من الدول باتت تنظر إليه باعتباره مدخلاً وسيطاً بين مرحلتي الدراسة والحياة العملية، أو بمعنى آخر فترة انتقالية يتم خلالها تأهيل الشباب لمرحلة جديدة ومهمة من حياتهم تشكّل نقطة التحول بالنسبة لمسارهم المستقبلي، يتم خلالها إعدادهم بشكل شامل، تربوياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً. وبهذا المعنى، فإن "التجنيد الإلزامي" ينطوي على مردودات إيجابية عديدة لا تقتصر على تدريب الشباب على بعض مهارات العمل العسكري، وما يرتبط به من قيم تحمل المسؤولية والشجاعة فحسب، وإنما تتضمّن تنشئة الشباب وتأهيلهم ومساعدتهم أيضاً من أجل الدخول إلى حياتهم العملية بقدر من الثبات والتمكن. أحد أهم المردودات الإيجابية لـ "التجنيد الإلزامي"، أنه يسهم في إعادة صياغة توجّهات الشباب وتشكيلها، وتنقية الشوائب العالقة بها من قيم مغلوطة قد تكون لحقت بهم، كالإحساس بعدم المسؤولية واللامبالاة، وإعادة توجيه هؤلاء ليكونوا أفراداً فاعلين في المجتمع، مشاركين بإيجابية في تطوّره وتنميته، وذلك من خلال ما تغرسه المؤسسة العسكرية من قيم ومبادئ من شأنها الحدّ من تفشّي المظاهر السلوكية السلبية وتعزيز الوحدة والولاء الوطني. الأمر المهم الآخر، أن هذه القيم الإيجابية التي يكتسبها الشباب في مرحلة "التجنيد الإلزامي" تؤهلهم لمرحلة الحياة العملية، والدخول إلى سوق العمل، لأنها ستجعلهم أكثر انضباطاً وتحمّلاً للمهام التي قد تلقى عليهم في الوظائف التي يشغلونها، إضافة إلى أن ما يتلقّونه من تدريب على مستوى عالٍ تتيحه لهم الإمكانات الكبيرة في المؤسسة العسكرية، يؤهّلهم للعمل في مختلف مجالات العمل المدني مستقبلاً بشكل أكثر إتقاناً، وبما يجعلهم بحق رافداً رئيسياً لعملية التنمية الشاملة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.