يفتقد عرب اليوم الكثير من مقومات الحياة الطبيعية التي يعيشها غيرهم من البشر. غير أن الثقة المفقودة في حياتهم باتت تمثل خطراً داهماً على حاضرهم ومستقبلهم. فالإنسان الطبيعي يثق في الناس إلا إذا حدث ما يدفع إلى الشك. وهذا هو الأصل في حياة البشر وتوجهاتهم وعلاقاتهم. لكن الأمر ليس كذلك لدى الكثير من عرب اليوم الذين يشكون في بعضهم البعض ابتداءً. فالثقة مفقودة بينهم أفراداً وجماعات. وقد بلغ انعدام الثقة على هذا النحو مبلغاً يجيز اعتباره مدخلاً لفهم وتفسير أكثر أزماتهم حدة واستحكاماً في اللحظة الراهنة. وربما يتعذر إدراك مغزى ما يحدث في بعض بلادهم الآن، بدون الولوج إليه من هذا المدخل. فهذه هي الحال في الأزمة الداخلية المصرية التي نشبت حين فوجئت الحكومة باحتجاجات شعبية لا سابقة لها في تاريخ البلاد المعاصر. وكان ممكناً أن تبقى هذه الاحتجاجات، التي أخذت شكل تظاهرات واسعة النطاق في كثير من المحافظات، في حدود آمنة لو أن هُناك شيئاً من الثقة بين المجتمع والدولة. غير أن انعدام الثقة جعل التواصل صعباً بل مستحيلاً بين شباب ليس لديهم أي استعداد لانتظار الجواب على رسالتهم التي تطالب بتغيير عميق، ونظام حكم أصابه جمود أضعف قدرته على الإدارة السياسة للأزمة، وبات معتمداً على معالجة أمنية خالصة. وبسبب انعدام الثقة، انطلقت هذه المعالجة من اعتقاد مسبق في أن جماعة "الإخوان" المحظورة تقف وراء المظاهرات، التي أدى استخدام القوة ضدها إلى توسعها على نحو لا سابق له. وربما تكون الأزمة اللبنانية في طورها الراهن حالة "نموذجية" على صعيد معضلة انعدام الثقة التي تواجه العرب الآن. فقد أفلتت فرصة التوصل إلى تسوية لأزمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان برعاية سعودية سورية (صيغة س س) بسبب انعدام الثقة بين الفريقين اللبنانيين الأساسيين (14 آذار و8 آذار) وضعفها بين الدولتين الراعيتين. ورغم عدم وجود يقين بعد بشأن ما حدث على وجه الدقة، واستمرار التضارب في بعض المعلومات، فالقدر المتيقن الآن أنه كانت هُناك صيغة عامة وإن لم تكن نهائية لتسوية الأزمة منذ قمة بعبدا الثلاثية السعودية السورية اللبنانية في آخر يوليو الماضي. قامت تلك الصيغة على التزامات متبادلة بين الفريقين اللبنانيين، بحيث يكون على فريق 14 آذار (وسعد الحريري أساساً) إلغاء ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية عبر إنهاء العمل ببروتوكول التعاون معها ووقف التمويل اللبناني لها وسحب القضاة منها، فيما يتعين على فريق 8 آذار (نصر الله بالأساس) التعهد بتفعيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الحريري وعدم تعطيل عملها أو الانسحاب منها تحت أي ظرف، وعدم استخدام سلاح المقاومة في الداخل، بالإضافة إلى سحب ملف شهود الزور. وأصبح واضحاً الآن أن كلاً من الفريقين كان قد وافق مبدئياً على الالتزامات المطلوبة منه، أو على الأقل أكثرها أهمية. لكن انعدام الثقة بينهما حال دون إنتاج آلية تكفل تنفيذ هذه الالتزامات، وأحبط التحرك السعودي السوري الذي لم تكن الثقة بين طرفيه كافية لإنقاذه. لذلك ظلّ كل من الفريقين اللبنانيين ينتظر أن يأخذ الآخر المبادرة. أراد قادة 8 آذار أن يبدأ الحريري ويأخذ الخطوة التي يعتبرونها الحاسمة، وهي إنهاء ارتباط لبنان بالمحكمة. لكن الحريري، الذي كان قد أخذ خطوة يراها كبيرة عندما أعلن أن الاتهام السياسي الذي طال سوريا في قضية اغتيال والده خطأ، انتظر أن يأخذ الفريق الآخر مبادرة بهذا الحجم. وكان رد سوريا على اعتذاره الضمني عن اتهامها قد فاقم شكوكه فيما يُراد له عندما أصدر جهازها القضائي مذكرات توقيف ضد شهود الزور طالت عدداً من معاونيه، ورغم أنه لم يفصح شخصياً عن هذه الشكوك، فقد صدر عن بعض أنصاره ما يدل على أنه بات يعتقد أنهم يريدون منه إعلان إلغاء الارتباط بالمحكمة لكي يغتالوه سياسياً. لذلك لم يبادر باتخاذ الخطوة التي يريدها الفريق الآخر، والذي فسر موقفه تفسيراً يؤكد غياب الثقة وهو أنه يكسب وقتاً إلى أن يصدر قرار الاتهام في القضية. وهكذا تصاعدت الأزمة اللبنانية لعوامل من أهمها انعدام الثقة الذي يحول دون استقرار الأوضاع في تونس حتى الآن ويأخذها صوب المجهول. فالشباب الذي يشعر بنشوة الانتصار لا يثق بإمكانية إقامة نظام جديد حقاً من خلال حكومة مؤقتة عمادها رجال النظام القديم. وفي الذاكرة تجربة نوفمبر 1987. فكان بن علي قد التزم بإصلاحات أساسية لم يلبث أن نكص عنها. ولم يجد شباب عاش مرارة البطالة والقهر ما يدفعهم إلى الثقة في رجال بن علي رغم تعهدهم بالقطع مع عهده وتأكيدهم أنهم سيسلمون السلطة للحكومة التي ينتخبها الشعب بعد ستة أشهر. لذلك لم تكف الإجراءات التي أتُخذت وتتخذ ضد قادة أمنيين سابقين وضباط في الحرس الرئاسي لتوفير ثقة شعبية كاملة في الحكومة المؤقتة، حتى بعد تعديلها واستبعاد رجال النظام السابق من أهم وزاراتها. وليست الأزمتان اللبنانية والتونسية وحدهما اللتان يرتبط تفاقمهما بانعدام الثقة بين أطرافهما. فهذه هي الحال في كثير من أزمات العرب الذين لم يستوعبوا ما ينطوي عليه الدرس السوداني من دلالة على خطر العجز عن بناء الثقة. فقد فشل طرفا اتفاق نيفاشا في المحافظة على الوحدة التي أعطاها هذا الاتفاق أولوية متقدمة، بسبب انعدام الثقة بينهما. فقد بُني ذلك الاتفاق على أساس أن تحقيق مصالحة وشراكة في الحكم سيدعم خيار الوحدة. لكن هذا رهان لا ينجح إلا في ظل حد أدنى من الثقة المتبادلة لم يتوفر. فقد ظلّت الثقة معدومة بين طرفين خاضا حرباً أهلية طويلة ولم يتعلما منها، كما هي حال الفريقين المتصارعين في لبنان اليوم. وليس هُناك ما يدل على أنهما في وارد التعلم من درس الانفصال. فما زال انعدام الثقة حاجزاً أمام حل الخلاف على منطقة أبيي، الذي ينذر بحرب بين دولتين هذه المرة. غير أنه ليس السودانيون فقط هم الذين لا يستوعبون الدرس، بل الكثير من العرب الذين بلغ انعدام الثقة بينهم في هذا العصر مبلغاً لا سابق له في أي عصر.