يطرح "شاندران نير" في كتابه الذي نعرضه هنا، "اقتصاد الاستهلاك... دور آسيا في إعادة صياغة الرأسمالية وإنقاذ الكوكب"، فكرة إصلاح الرأسمالية من الداخل، محذراً من الطريق الذي تسلكه حالياً، والمتمثل في الترويج للاستهلاك باعتباره الدافع الأساسي لخلق الطلب المتواصل على السلع التي تنتجها الآلة الرأسمالية في الدول الغربية. لكن المشكلة تتخذ أبعاداً خطيرة عندما يتعلق الأمر بآسيا التي يلاحظ الكاتب تزايداً مفرطاً في طلبها على السلع العالمية، بل حتى الفاخرة منها. فقد أورد المؤلف على سبيل المثال تقرير شركة "بي إم دبليو" عن أن مبيعاتها من السيارات الفاخرة ارتفعت في الصين والهند بفضل ظهور طبقة جديدة من الأغنياء المحدثين تسعى جاهدة لاقتناء أغلى السلع التي يصنعها الغرب، وهو ما يهدد بتقويض نموذج التنمية المستدامة؛ إذ لا شيء، يقول الكاتب، يهدد بلدان آسيا الصاعدة أكثر من تبني النموذج الاقتصادي الغربي القائم على استنزاف الموارد الطبيعية، موجهاً دعوته إلى القادة وأصحاب القرار بالنأي عن النمط الاستهلاكي وتبني نموذج اقتصادي قائم على ترشيد الاستهلاك وتلبية احتياجات الشعوب بدل التركيز على نخبة صغيرة من رجال الأعمال تستحوذ على ثمار الرأسمالية الليبرالية، فيما يعيش الباقون حياة البؤس والفقر. هذا فضلاً عن الأضرار الكبيرة التي تلحق بالبيئة في ظل استهلاك متزايد للموارد. فكلما نما الاقتصاد احتاج إلى مصادر الطاقة التي بدورها تستنزف الأرض وتلوثها. لكن بالتحكم في الاستهلاك والحد من الحاجات الوهمية التي يخلقها اقتصاد السوق، يمكن تحجيم النمو الاقتصادي الذي لا يعني في جميع الأحوال تعزيز التنمية بمفهومها الشامل. ويحذر الكاتب من أن العالم لن يستطيع التأقلم مع صعود آسيا، ولن يستطيع التعامل مع ما سيترتب على النمو الكبير لسكانها، علماً بأن مطالب هؤلاء بدأت تحاكي مطالب الغربيين وتتماهى معها كمعيار حتى ولو كان ذلك على حساب استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية. ومما يزيد إحباط الكاتب المقولة الرائجة حالياً على نطاق واسع من أن صعود الصين واستهلاكها لمزيد من البضائع المصنعة في الغرب هو الطريق الأسهل والأسرع لاستعادة الاقتصاد العالمي لعافيته بعد الأزمة الأخيرة، فالمصانع في الغرب تعيش على وقع الاستهلاك في الشرق وبدون هذا الاستهلاك المولد للطلب العالمي لن يتمكن الاقتصاد من الوقوف على رجليه مرة أخرى. وعلى مدى صفحات الكتاب لا يخفي الكاتب امتعاضه، بل واحتقاره أحياناً للرأسمالية في صيغتها الغربية التي يرى أنها تضع العالم على سكة الخراب لتركيزها المفرط على أيديولوجية الأسواق المفتوحة وجشعها في التعامل مع الموارد الطبيعية، معبراً عن هذا الرأي بقوله: "إن أكبر كذبة على الإطلاق هي ما يقال عن قدرة الرأسمالية الاستهلاكية على توفير الثروة للجميع، ففي آسيا لا تستطيع القيم الاستهلاكية سوى تلبية احتياجات فئة قليلة من الناس، أما على المدى البعيد فلن توفر إلا البؤس للناس، وهو نوع من الاحتيال الفكري الذي يحاول الغرب ترويجه في آسيا". ولتوضيح فكرته المعارضة للاستهلاك الرأسمالي، يتناول الكاتب معضلة الطاقة، فلو أن آسيا انخرطت في استهلاك الطاقة بنفس معدلات الاستهلاك الأوروبي مثلاً، وهو معدل أقل من نظيره الأميركي، فإن آسيا تستهلك ما بين ثماني إلى تسع مرات أكثر مما تفعل حالياً. ولا يبدو أن المؤلف من الذين يضعون ثقتهم العمياء في الإمكانات التكنولوجية التي يعول عليها البعض، أو في قدرتها على اجتراح المعجزات والتوصل إلى حلول لمشاكل البيئية والتغير المناخي، بل يعلن منذ البداية فشل إمكانية الجمع بين النمو المطرد للاقتصاد والاستهلاك المنفلت وبين التنمية المستدامة. كما يعترض على من يريد لآسيا في هذه المرحلة التركيز على النمو الاقتصادي لخلق الوظائف ثم الالتفات لاحقاً عندما تصبح غنية إلى الموضوع البيئي والتنمية. بيد أن رفض الكاتب للرأسمالية الاستهلاكية لا يعني أنه من أتباع اليسار أو حركات الدفاع عن البيئة، بل يدعو إلى تغيير الرأسمالية في صيغتها الحالية وليس استبدالها بنظام آخر. ويطرح من أجل ذلك منظوراً مغايراً قائماً على مركزية الدولة في حماية البيئة والحفاظ على التوازنات الضرورية داخل المجتمع والقدرة على اتخاذ إجراءات حازمة لمراقبة الموارد الطبيعية وضمان عدم الإفراط في استغلالها. ويرى الكاتب أيضاً أن الحكومة ستتولى دوراً مهماً في الرأسمالية الجديدة من خلال الاستثمار في البنية التحتية المستدامة مثل النقل العام، بالإضافة إلى فرض ضرائب على الانبعاثات الملوثة، وعلى التعاملات المالية المشجعة على المضاربة، مع تقليص ضريبة الدخل التي تستهدف المواطن العادي. أما على المستوى الفردي، فسيكون على الأشخاص التخلي عن حلم امتلاك السيارة، ودفع سعر أعلى لشراء اللحم. وبعبارة أخرى يطالب الكاتب برأسمالية على الطريقة النرويجية، حيث مداخيل الموارد الطبيعية مراقبة من قبل الدولة وموزعة بين الجميع، فضلاً عن دعم الزراعة والحفاظ على مناطق الصيد، والالتزام بترشيد استهلاك الطاقة. زهير الكساب الكتاب: اقتصاد الاستهلاك... دور آسيا في إعادة صياغة الرأسمالية وإنقاذ الكوكب المؤلف: شاندران نير الناشر: إنفينيت أيدياز تاريخ النشر: 2011