قبل اكتشاف النفط كان الخليجيون يُقبلون على الأعمال والحرف اليدوية بصدور رحبة، وشغف متناهٍ، وشعور جارف بالانتماء لمهن تقليدية عريقة، وإحساس بالفخر للقدرة على ترويض الصحراء، ومغالبة ظروفها القاسية بعزم لا يلين، وإقبال لا يفتر على الحياة. وبعد أن ضخ النفط في أوصال الاقتصادات الخليجية وفورات مالية كبيرة ابتعدت الأغلبية الكاسحة من شعوب الخليج عن هذه المهن، بل ارتبطت في أذهان الجيل الجديد بالتهميش والتواضع الاجتماعي، فصار يفضل البطالة بكل قسوتها على أي عمل يدوي أو حرفي بسيط، على رغم أنه عمل شريف، يؤجر المرء عليه في الدنيا والآخرة من الله سبحانه وتعالى، الذي حض في القرآن الكريم على العمل، أكثر من مرة، وجعل للعامل فضلاً على العابد الزاهد، فيما أكد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن "من بات كالاً من عمل يديه بات مغفوراً له". وقد أدى هذا التمنع، الذي يعد قطيعة مع تراث الأجداد وتنكراً لحياتهم العامرة بالكفاح، إلى ارتفاع معدلات البطالة في المجتمعات الخليجية، فباتت الجامعات تقذف إلى سوق العمل كل سنة مئات الآلاف من الخريجين، من دون أن تجد أغلبيتهم العمل الذي تشعر فيه بالرضا الوظيفي، والمكانة الاجتماعية التي ظلت تحلم بها داخل أسوار الجامعات وبين أروقة الكليات. ومع اتساع الهوة تدريجيّاً بين متطلبات سوق العمل وكفاءة الخريجين، ازداد الوضع تفاقماً من دون أن تقود هذه الوطأة إلى تغيير ثقافة العمل عند أغلب الشباب الخليجيين، نزولاً على المواءمة بين إمكانياتهم المتاحة، والوظائف الموجودة من جهة، وطموحاتهم العريضة من جهة أخرى. ولهذا يتحدث البعض في دول مجلس التعاون دائماً عن أن خريجي الجامعات من أبناء الخليج يتطلعون إلى أن يصبحوا مديرين عامين فور تخرجهم، وربما ينتظر بعض منهم أن يتم تعيينه رئيساً لمجموعة من الموظفين، مهما تباعدت الشقة بينه وبينهم من حيث السن والكفاءة والخبرة العملية. وباستثناء فئة نابهة من شباب الخليج تؤمن بتراكم الخبرة وأهمية التعلم المستمر والتدريب الدائم لحيازة الجدارة التي تؤهلها لقيادة العمل عن وعي ودراية، فإن فئة أخرى غيرها تعتبر القفز إلى سدة العمل فور التخرج حقاً طبيعيّاً من حقوق المواطنة، وواجباً راسخاً على الدولة أن تؤديه، مهما كلفها هذا من أعباء مالية وإدارية، أو عطل خطاها في تنفيذ مشروعات تنموية حقيقية تعتمد تدريجيّاً على سواعد أبناء الخليج، بعد أن تشتد، وتصبح قادرة على النهوض بأعمال حقيقية تضيف إلى الإنتاج. ولكن ينبغي أيضاً التأكيد على أن المجتمعات الخليجية لا تقف بالضرورة جميعاً على قدم المساواة في هذا الفهم غير المناسب لثقافة العمل، بل تتدرج حسب الإمكانيات المادية، فلا يزال البحرينيون مثلاً مهتمين بالحرف التقليدية، نظراً لأن بلادهم ليست دولة (ريعية)، إذ إن إنتاجها من النفط الخام يكاد يكفي فقط احتياجاتها الاستهلاكية من الطاقة. كما أن العمانيين لا يستنكفون عن ممارسة المهن التي توكل للعمالة الوافدة، مثل قيادة سيارات الأجرة والعمل في المخابز ومحلات البقالة والعمل في مجال المعارض التجارية. وفي الوقت نفسه فإن المجتمع السعودي يشهد تغيراً هو أيضاً في النظرة إلى تقدير مثل هذه المهن، بما يراكم اتساعاً في فهم ثقافة العمل على نطاق أرحب، مما كان في الماضي القريب. وعلى رغم أن دول مجلس التعاون ما زالت تمضي قدماً في سياسة (توطين الوظائف) إلا أنها لم تسر في خط متوازٍ باتجاه تغيير ثقافة العمل، ربما لشعور أو قناعة لدى البعض بعدم الحاجة الملحة إلى ذلك في الوقت الراهن، مع استمرار تدفق عوائد النفط وارتفاع أسعاره، وربما أيضاً لعدم الرغبة في إثارة حفيظة شرائح معينة من المواطنين، في ظل التراضي الضمني، والتفاهم والتناغم الوثيق بين السلطة والجماهير، الذي يعتمد في بعده الاقتصادي خاصة لجهة دعم التزامات الحكومات تجاه الشعوب على مداخيل عائدات بيع النفط، وتخصيص جزء كبير منها في شكل مساعدات والتزامات دولة الرعاية والرفاه، أو حتى في شكل رواتب قد لا يقابلها عمل حقيقي وخلاق، أو جهد يكافئ مستوى هذه الرواتب. وقد تكون بعض هذه الحكومات تعول على أن التغير الجذري في الأحوال الاقتصادية لأي مجتمع في لحظة تاريخية ما هو العنصر الأساسي والفعال في تغيير ثقافة العمل في النهاية، إذ عندها لن يكون بوسع شباب الخليج أن يحتفظوا بحال الرفاه التي يعيشونها، وقد تجبرهم الظروف شيئاً فشيئاً على الانخراط في مهن كانوا يرفضونها في السابق بدعوى أنها أقل مما حلموا به.