هما مختلفان لكن بدون خلافات. بل هما متشابهان أكثر مما توحي به تفاصيل القشور. التشابه يتجلّى في أسس الجوهر الواحد. وحتى عندما رحلا،اللافت أنهما غادرا عالمنا في عامين "منفصلين"، لكن بفارق زمني قوامه أسبوع واحد! فقد "انطفأ" نجم سامي العلمي يوم 28/12/2010، و"انطفأ" نجم أحمد اليماني يوم 4/1/2011. "انطفأ" النجمان رغم أن كلاً منهما أضاء سماءنا ولا يزال. وحده الجسد يفنى، أما الأمثولة فباقية بقاء حزننا على فراقهما، وبقاء ما جسداه أثناء إقامتهما بيننا، وما أسبغاه على حياتنا من عطاء في دوائر الخدمة العامة. لا نقف أمام التفاصيل المختلفة، ولا هي تخدعنا. لا الطول أو القصر، لا لون البشرة أو العين، لا المدرسة أو الجامعة، لا الراتب أو الدخل، لا مكان العمل أو الوظيفة، فالجوهر واحد: كلاهما كانا في صلب "الخدمة العامة"، وكلاهما برزا في عالم نظافة اليد واللسان، وكلاهما وقفا -بل تمترسا- في المربع ذاته: العطاء السخي وغير المحدود! الراحل الأول، سامي العلمي، كان ركناً من أركان البنك العربي، بل عقله المبدع وذراعه القوية على امتداد فترة طويلة. والراحل الثاني كان ركناً من أركان العمل العربي، بل ضميره اليقظ، بلا منازع، سواء في حركة القوميين العرب، أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو منظمة التحرير الفلسطينية. تعلمت من الفقيد الأول ضرورة "الانسلاخ" عن الطبقة التي صعد إليها، أو صعدت إليه بشكل أكثر دقة. لقد صعد إليها بجدارة، على سلم علمه وفكره وجهده. لكنه لطالما انسلخ عنها لصالح الفقراء والخدمة العامة... فشكل نموذجاً في العطاء، بدون تظاهر وبدون أضواء. وأصلاً، ما كان به "حاجة" للتظاهر والأضواء فهو القانع، فحسب، بالضوء المنبعث من نبع الإشعاع في شخصيته: العطاء البريء من الهوى والغرض. وتعلمت من الفقيد الثاني ضرورة "عدم مغادرة" أماني الطبقة الكادحة (التي اختار البقاء في صفوفها بقوة التقشف والزهد رغم قوة الجذب إلى "أعلى" التي وفّرها له علمه وفكره وجهده)... فكان نموذجاً في العطاء، بدون تظاهر وبدون أضواء، وأصلاً، ما كان به "حاجة" للتظاهر والأضواء وهو القانع، فحسب، بالضوء الوافد من نبع الإشعاع في شخصيته: العطاء البعيد عن الهوى والغرض. ورغم عطائهما الكبير، لم يكن الواحد منهما شهاباً يضيء على الناس ومن ثم يحترق مكتفياً بما فعل. بل اختار كل منهما أن يكون، وبقوة الأمثولة، منارة راسخة تضيء الدرب باستمرار. هما مختلفان لكن بدون خلافات. أما الانتماء فواحد: عربي وإنساني. والاستراتيجية واحدة: عروبة من أجل العروبة ومن أجل فلسطين. والتكتيك واحد: مع المقاومة الفلسطينية بصفتها رأس الحربة العربية (ومعها قوى الأنصار العالميين) لتحرير فلسطين. لله درهما كم هما متماثلان بدون خلافات في المواقف، ولله درهما كم هما متطابقان بدون تشابه في التفاصيل! "والمشترك الساحر" بين الفقيدين ربما كان التعاطي مع أصحاب الطروحات السياسية المتعددة والمتباينة، وقد تجلى ذلك في ميزة قوامها طاقة هائلة لدى كل منهما على الإنصات. البعض لم يدرك أن تلك الميزة إنما هي مزيج من طبيعة أصيلة جوهرها احترام الآراء المختلفة، ومن فن أتقنه الاثنان حتى غدا "طبيعة ثانية" عند كل منهما. والأنكى أن ذلك البعض أساء فهم تلك "الظاهرة" غير المألوفة في لقاءاتنا ومنتدياتنا السياسية والاجتماعية، فاعتقد -ببؤس شديد- أن نعمة الإنصات عند فقيدينا هي دليل "موافقة" على كل ما يقال، أو مؤشر "ضعف" تجاه القائلين! لكن سرعان ما علم هؤلاء، وفي لحظة الحقيقة، حقيقة ما لدى سامي العلمي وأحمد يماني: الرأي المعجون بالموقف الواضح، القوي المتماسك، والجريء أبداً، لاسيما أمام الكبار من سوية "عرفات" و"الحكيم" و"أبو جهاد" و"أبو إياد" وغيرهم من قادة الشعب الفلسطيني. نمط الحياة البسيطة عند سامي العلمي كان الوجه الآخر لتقشف أحمد يماني. وفي تعاملات الحياة العامة، إذا كانت "المكانة البنكية" لسامي العلمي قد اقتضت منه الاحتفاء بضيوفه بكرم، فإنه حرص على أن يكون كرماً خالياً من مظاهر البذخ التظاهري المريض ومنقطعاً بشكل كامل عن ممارسات الفساد الإداري والمالي الذي غالباً ما يرافق "الموقع"! وإذا كانت "المكانة السياسية" لأحمد يماني قد اقتضىت تقشف الأولياء والصالحين والزهاد، فإنه كان كريماً جداً حيث يقدم لك ما يقدمه لنفسه وأدمن عليه: مالذ وطاب من الحمص والفلافل والزيتون والزعتر! آه، كم نشتاق -هذه الأيام- لهذا النوع المنقرض من المسؤولين في القطاعين الخاص والعام! حقاً، ما أرويت عطشي إلى التأمّل في هاتين المنارتين، هذين المعلمين البارزين، وقد كانا قائمين بكبرياء على درب الحياة التي عشتها وأعيشها. وحقا ما اكتفيت منهما، يوماً، وأنا أنهل من حصيلة تعليم نفسي على الأيدي "الخفية" لهذين المعلّمين البارزين. وإذ أقول "أياد خفيّة" لهما فذلك كونهما لم يمارسا معي (وغيري) مرض "الأستذة" من جهة، وكونهما لم يعلما، أصلاً، عن الأثر الذي تركاه في حياتي وغيري من جيلي وسواه من الأجيال. لا مكان للتفاصيل هنا، فمجال التناول الرحب لشخصيتي الفقيدين سيكون في "مذكراتي" (قيد الإعداد) والتي ستشمل أيضاً مآثر غيرهما من أساتذتي في أكاديمية الحياة، مثلما ستشمل من كانوا على نقيض هؤلاء فشكلوا عقبة سياسية واجتماعية تعثرت قدمي بها في رحلة العمر القاسية. وحسبي الآن أن أرفع راية أحمد يماني وسامي العلمي النظيفة كي يشاهدها كل المبصرين (بقوة البصيرة قبل قوة البصر) ويسمعها كل من وهبه الله حسن الاستماع وحسن الحديث، فالهدف واحد: إعلاء قيمة العمل العام، مقرونة بقيمة العطاء المنزه عن الغرض والهوى، وكل ذلك من أجل أن يحتذي شباب الجيل الجديد بأمثولة هذين الراحلين عنّا، المقيمين بيننا، فيتسلموا الراية!