تتعرض دولنا العربية اليوم لهبات وموجات متعاقبة من الدعوات إلى الديمقراطية والحريات واستعادة الكرامة، ولحسن الحظ ليس ذلك بسبب "المحافظين الجدد" وسياسة بوش وحروبه الاستباقية التي فشلت في تحقيق أي من ذلك. تماماً مثلما أن تسونامي التغيير العربي الراهن يخالف أيضاً مقولات "موجة الديمقراطية الثالثة" لصمويل هنتينغتون. وخلال شهر واحد تغيرت تضاريس وواقع ومستقبل النظام العربي بشكل غير مسبوق، وربما حتى غير متوقع من أصحاب العلاقة ممن يقودون التغيير نفسه، وذات الشيء بالنسبة للأنظمة واللاعبين الكبار في الإقليم وحول العالم. وفي هذه الأثناء يزداد نبض الشارع وقوته ليبقى قوة دافعة تقودها وتؤطرها ثورة المعلومات التي فجرت التغيير بشكل لم تعد معه الأنظمة قادرة على الحد من قوة الاندفاع أو التحكم فيه. وهكذا في لمح البصر انتهت في الجمهوريات العربية ظواهر الحكم المطلق الأبدي والتوريث وحالات الطوارئ وتجاهل مطالب الرغيف والغلاء والمعارضة والكرامة. وهذا ما قاله الرئيس اليمني: "لن أكابر، وسأقدم تنازلات تلو التنازلات، وسأقول لبيك. ولن أرشح عام 2013، ولا توريث". قبل أن يلحقه الرئيس الجزائري بوعده برفع حالة الطوارئ المفروضة منذ عام 1992، واعترافه بشرعية الاحتجاج، لينضم الملك عبدالله الثاني ويقيل حكومة سمير الرفاعي التي لم يمض عليها شهران، بعد أربعة أسابيع من المظاهرات والمطالبات برحيلها. وبسرعة خصص العديد من الحكومات العربية حوافز وميزانيات إضافية للتوظيف ودعم السلع الأساسية، لاحتواء عدوى المطالبات والثورات العربية المتنقلة. لقد خاضت أميركا حرب العراق في أحد أبعادها لدمقرطة المنطقة، وليكون العراق، على ما قيل، نموذجاً للديمقراطية العربية. وتحدثت وزيرة خارجية أميركا السابقة كوندوليزا رايس في عام 2005، عن الحريات والديمقراطية، وقد قالت ذلك، ويا للمفارقة، في الجامعة الأميركية في القاهرة على بعد خطوات من ميدان التحرير، نبض ورمز وقلب ما يموج ويجري في مصر الآن مما يتابعه الجميع. وكان ذلك في حمأة مثاليات تبشير بوش وزمرة "المحافظين الجدد" بوعود وشعارات الديمقراطية في المنطقة بعد اعتداءات 11 سبتمبر2001. وتحدثت رايس حينها عن حتمية التغيير وأنه "حتمي وليس مستحيلاً"، وأن المصريين "يجب أن يقودوا رحلة الحرية والديمقراطية العظيمة. كما قادت مصر المنطقة في الإنجازات العظيمة في الماضي". ولكن تلك المواقف الأميركية سرعان ما تراجعت مقدمة الاستقرار والأمن على الحريات والديمقراطية. وبعد مجيء إدارة أوباما الحالمة وخطابه الشهير في جامعة القاهرة قبل عام ونصف، ووعوده بالتغيير وفتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي، إذا به يخيب آمال العرب على أكثر من صعيد، في تعثر تصالحه مع العالم الإسلامي، وفي تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وفي دعم قوى التغيير والديمقراطية. وأكثر ما يثير الدهشة مواقف بلاده المتبلدة تجاه قوى التغيير العربية. وفجأة إذا بتلك القوى تقود الشارع بعد عقود من الكبت والحرمان، دون أن تلهمها أو تدعمها أميركا المترددة بأكثر من الشعارات. والأمثلة كثيرة من واقعنا، ألم تستمر أميركا- أوباما، ومعها فرنسا- ساركوزي، في دعم بن علي وحكمه القمعي حتى الرمق الأخير قبل أن تتخليا عنه، وترفضا حتى استضافته بعد فراره. والموقف أكثر تعقيداً مع النظام المصري. وهنا كانت مواقف أميركا أكثر تخبطاً ممسكة العصا من الوسط، بعد أن اقتنعت بقوة وحتمية التغيير. ودليل هذا التخبط الأميركي، حديث مسؤول أميركي عن "تغير موقف الإدارة كل 12 ساعة"، حيث كان هناك موقف الوزيرة كلينتون "النظام المصري مستقر"، ثم موقف نائب الرئيس "مبارك حليفنا" إلى مطالبات بالتغيير والانتقال السلمي للسلطة وحق الشعب في التغيير والاستجابة لمظالمه. ولكن لم يسمع أحد الكلمة السحرية بطلب الرحيل، لأن مركزية مصر ودورها في الصراع العربي الإسرائيلي، ومكافحة الإرهاب والإرهابيين، لا يمكن تعويضه إذا انتقلت إلى معسكر خصوم وأعداء واشنطن، بسيناريو كابوسي حذر منه الرئيس مبارك في مقابلته الأخيرة حين تحدث عن خطر الفوضى ووصول "الإخوان المسلمين" للسلطة. إن مخاض النظام العربي الجديد يعني فشل المشروع الأميركي الذي غاب حضوره ودوره وتأثيره وإلهامه على طريق التغيير. فهذا النظام العربي الجديد هو نتاج إصرار قوى التغيير العربية ولا فضل أو دور للآخرين فيه. وقد يدشن مخاض النظام العربي الجديد هذا إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تلبي طموح وآمال المواطن العربي بتغييرات حقيقية تحسن من أوضاعه الإنسانية والمعيشية وتحفظ كرامته. وذلك سيمنح جيل الشباب العربي الذي يقود التغيير الأمل بمستقبل أفضل وينهي بالتالي حالة الاستثناء العربي المزمنة!