طوال الخمسين سنة الماضية، استعمل العديد من الباحثين الغربيين بعض المناهج التفسيرية لتحليل غياب الديمقراطية في العالم العربي؛ وتبعهم في هذا الجنوح الفكري متخذو القرار في المجتمعات الغربية وبنوا انطلاقاً من ذلك سياستهم الخارجية مع العديد من الدول العربية. وأغلب تلك المناهج التفسيرية كانت متعلقة بالذهنيات والمسلكيات عند العرب، وهو ما يعني عندهم أن كل ما له صلة بالإنسان العربي والعقل العربي إنما هو رديف للتراجع السياسي والحضاري والتخلف الفكري والحداثي، فأصبحت تلك الذهنيات والمسلكيات، العامل المستقل (Independent Variable) في تفسير غياب الديمقراطية والمؤسسات والتطور الاجتماعي والاقتصادي، والركود السياسي. ووجدنا في الكثير من الكتابات تماديّاً في الاستهانة بالعقل والذات الحضارية العربية، وعندما توصف الذهنيات والمسلكيات، فإنها تنعت بالسلطوية والبطركية والإرث المستحكم، والجامد الذي لا يمكنه أن يتغير، والمعطى القار والثابت الذي لا مرد له؛ وتبعت الغربيين في هذا التفسير زمرة من المفكرين العرب، فنجد إيلي قدوري يقول إنه "ليس هناك في التراث السياسي الإسلامي شيء مما يجعل أفكاراً منظمة كالحكم الدستوري والتمثيلي أليفة أو قابلة للفهم"، وروج روفائيل بطاي لفكرة العقل العربي (The Arab Mind) بمعنى الحتمية التاريخية والجمود عند العرب؛ وجاء فؤاد إسحاق الخوري بكتابه "الذهنية العربية: العنف سيد الأحكام" ليرى في التقاليد وبنية النفوذ الشبيهة بـ"حبات العنقود" مسلكيات تطمس على قلوب وعقول المرؤوسين والمحكومين، فيصعب بذلك إنشاء "سوق سياسي" مستقل يتنافس أطرافه فيما بينهم، وبالتالي لا يمكنها أن تمارس اللعبة الديمقراطية الصحيحة؛ ونجد عالماً أنثروبولوجيّاً آخر هو هشام شرابي يأتي بنظرية الأبوية المستحدثة التي لا تتماشى وقواعد الحداثة، ولها انعكاس مباشر على السلطوية السياسية؛ ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المفكر المغربي عبدالله حمودي المقيم في الولايات المتحدة الأميركية. وإذا بحثت في ثبْتِ هؤلاء المفكرين الذين تناولوا بالدراسة والتأليف مسألة المسلكيات والذهنيات وعلاقتها بالسلطوية والانسداد السياسي تجد معظمهم يزاول التدريس والبحث في المجتمعات الغربية، ويتحولون مع مرور الوقت إلى أناس يرفضون مجتمعاتهم جملة وتفصيلًا، وهذا ما يمكن أن نسميه بـ"عقدة المثقف". وقد أعجبني ما كتبه إيليا حريق، عن تلك الازدواجية عند هؤلاء المثقفين ذوي المشاعر المضطربة، المذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، عندما قال: "الكثيرون منا، نحن الدارسين والعاملين في البلدان المتقدمة صناعيّاً، يتحولون إلى شخصيات غير متلائمة مع مجتمعات المنشأ المتخلفة، فيقعون في أزمة شخصية، وغالباً ما تؤدي تلك الحالة بالمتغربين إلى رفض مجتمعاتهم... إن الألم والغضب المرافقين لتلك النزعة يضخمان في النفوس مكانة الذهنيات والمسلكيات وخطورتها إلى درجة تقذف بأولئك المثقفين نحو هوة المغالاة... إلا أن طرح تصوراتهم على الغير للتبني وتحقيرهم للذات الجماعية لا تخدم برامجهم أو غاياتهم الإصلاحية كما أنها ليست في صالح أحد". وانتشار مثل هذه النظريات، مدهش حقاً في العقود الخمسة الماضية على رغم أنها خاطئة علميّاً وخطيرة سياسيّاً. إن اعتبار الذهنيات والمسلكيات عند العرب أصل الداء في استمرار الاستبداد خطأ علمي يتجاهل أهمية العامل السياسي في السطو على آليات الديمقراطية ومنعها من الوجود، وهي إسقاط مباشر للسياسة من المجتمع، وهذا طبعاً أول طريق للسلطوية السياسية؛ ووضع اللوم على الذهنيات والمسلكيات مسألة خطيرة سياسيّاً، استساغها العديد من الأنظمة وقام باستغلالها لألف مأرب وغاية، فتم مثلاً تداولها كسلعة سهلة في السياسة الخارجية حتى تكون لها مقبولية لدى المجتمع الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وفي الأسبوع الماضي تحدثنا جزئيّاً عن صناعة الشرعية السياسية في أوطاننا العربية وإعادة إنتاجها داخليّاً، وبإمكاننا القول إن نفس العملية تتم من طرف تلك الدول على الصعيد الخارجي، وتجد في الاستدلال بالذهنيات والمسلكيات وخطورة المد الإسلامي والثوري إلى غير ذلك ملاذاً آمناً يسير وأفكار وتوجهات الغرب. لا أتذكر يوماً أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ولا الحالي نيكولا ساركوزي، انتقدا الشرعية السياسية لحكم بن علي على رغم الاحتكار غير المسبوق للسلطة، حدة وكثافة، من قبل حزبه وفريقه، وعلى رغم تعديله للدستور قصد تمكينه من البقاء لأطول مدة، وكذلك تفشي قيم الهدر والتحلل وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام، وإشاعة الفساد والمحسوبية وعدم احترام حقوق الإنسان؛ وغاية ما هنالك أن الرئيس السابق كان يتبجح بأن تونس هي الدولة المغاربية الوحيدة التي تمنع الإسلاميين من الوجود، وأن خطر وصولهم يوماً إلى الحكم قائم، وأن تواجد تونس جنوب أوروبا وبجانب الجزائر التي عرفت عشر سنوات من الحرب بين الجيش والإسلاميين قد يضع المنطقة كلها في خطر؛ ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الحزب الحاكم في مصر. والحال أن المتظاهرين في مصر وتونس لم يحرقوا أعلاماً أميركية أو إسرائيلية أو فرنسية أو أوروبية، ولم يكن مصدرَ تلك التظاهرات أحزاب المعارضة ولا أحزاب إسلامية ولا نقابات، وإنما شريحة مجتمعية متعددة المشارب والأطياف كانت تتهم في مسلكياتها وذهنياتها، وأظهروا للعالم التكتيك الانحرافي الذي كانت تستعمله النخب الحاكمة، وأن غياب الديمقراطية في تلك البلدان مرده الطغيان السياسي الذي أتى بشجرة من الاستبداد تبين أنها خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، وأنه من حقها أن تطلب حقوقاً ديمقراطية اهتضمت، وقيماً وحريات معترفاً بها دوليّاً؛ وصعب في تلك المظاهر تمييز زيدهم من عمرو وإنما أرادوا جميعاً نمطاً جديداً من الحكم قائماً على المواطنة والحرية والمساواة والمسؤولية والتعددية، فالمرحلة أعلى مما كان يفسره منظرو النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية، وموجة التغيير أسرع من مقدرة الدول الغربية العظمى حتى على التفكير.