يبدو الحديث عن قضية الهوية حديثاً شائكاً، خاصة في ظل تعاظم حركة المد الثقافي والمعرفي للثقافة الكونية. ذلك المد الذي دفع ببعض المفكرين - من أمثال هومي بابا، الذي يعد أبرز مفكري ما بعد الحداثة، إلى القول في كتابه "موقع الثقافة" باننا أصبحنا نعيش في عصر الفضاء، الثقافي والمعرفي، البيني المتداخل. ذلك الفضاء الذي بات يشهد ثقافة "عابرة للهويات " تضم خليطاً وأشتاتاً من ثقافات متعددة وغير متجانسة، تتسم بأنها ذات طابع "هجين "، وبالتالي يستحيل الحديث عن ثقافة تتسم بسمة النقاء والتجانس، كما يصبح الحديث عن "الهوية" محض خيال. وقد يكتسب هذا الحديث مصداقية نسبية داخل مجتمعات تخطت مرحلة الحداثة، وقطعت أشواطاً في مسار ما بعد الحداثة. لكننا أحوج ما نكون في مجتمعنا، وفي ظل ما يتسم به من خصوصية ثقافية واجتماعية، وفي ظل المخاطر التي تتعرض لها الهوية الثقافية والحضارية، إلى التأكيد على ضرورة الحفاظ على هويتنا الوطنية، ذلك لأن الحفاظ على هذه الهوية هو السبيل الذي يمكننا من التفاعل الإيجابي مع الثقافة الكونية. والأهم من كل ذلك - وكما أكدنا في مقالنا السابق - هو أن أول شروط تحقيق الأمن الثقافي تتمثل في المحافظة على الهوية الوطنية. تلك الهوية التي تتجسد في اللغة (التي تمثل قلب الهوية)، والدين (الذي يمثل روح الهوية) والأصول المشتركة (التي تمثل جسد الهوية). ولكن كيف يمكننا خلق بيئة تمكينية تعمل على تجدد وتدفق هذه المنابع الثلاثة، وتجعلها قادرة على التفاعل الإيجابي مع متطلبات الثقافة الكونية ومجتمع المعرفة؟ كما تجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الحاضر ومستجدات المستقبل، من دون أن تفقد سماتها وخصائصها الجوهرية؟ يعد "توطين الهوية" العامل الأساسي القادر، في تصوري، على تغذية المنابع الأساسية التي تنهل منها هذه الهوية، ذلك لأن توطين الهوية هو الذي يؤدي إلى تشكيل أساس صلب ترتكز عليه هذه الهوية، كما يؤدي إلى حل الكثير من المشكلات، التي تظهر على جسد النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع، بفعل التنوع الناتج عن الخصائص الديموغرافية، والتي تعد التركيبة السكانية من أبرز معالمه. وتنوع الجماعات الاجتماعية والثقافية، التي تعيش على أرض هذا الوطن، وما ينتج عن ذلك من تنوع في اللغات واللهجات المنطوقة والمستخدمة في لغة الحياة اليومية. كما أن توطين الهوية هو القادر على بناء"ثقافة المواطنة"، التي تعلي من شأن الإنسان الإماراتي، وترتقي بوعيه، وتجعله أكثر إدراكاً لحقوقه وواجباته، كما تعمق من مسؤوليته الاجتماعية ومن التزامه بالقيم الأخلاقية والدينية، بما يفض إلى وجود إنسان يحافظ على هويته، ويعتز بها، دونما تعصب أو انغلاق. وتبدأ أولى خطوات توطين الهوية، فيما أرى، بضرورة الاهتمام باللغة العربية. فاللغة - كما يقول جون جوزيف في كتابه "اللغة والهوية"، الذي ترجمه عبد النور خرافي وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة - هي أساس الهوية، بل إن الهوية هي قضية لغوية في جذورها. لذا لم نكن مبالغين حينما نظرنا إلى اللغة بوصفها "قلب الهوية". فاللغة- عزيزي القارئ - ليست فقط أداة تواصل وتفاهم بين أبناء المجتمع، بل تعد، في الوقت نفسه، وسيلة التفكير الأساسية. والأداة الأساسية للتعليم والمعرفة. والوعاء الذي يحمل المخزون الروحي والثقافي والمعرفي لأبناء المجتمع، ويعكس طريقة تعاملهم مع قضايا الحاضر ورؤيتهم لضرورات المستقبل. كما تعد اللغة الأداة الأساسية التي تمكنهم من إنتاج المعرفة، ومن المشاركة في صنع الحضارة العالمية. فمن الصعب أن نكون شركاء حقيقيين في مجتمع المعرفة دون أن نتملك منظومة لغوية قادرة على تحقيق هذه الشراكة، بل إن مستقبلنا الحقيقي في مجتمع المعرفة يتوقف على مستقبل لغتنا العربية. أضف إلى ذلك أن احترام اللغة من احترام الذات المعرفية والثقافية، ودليل أساسي من دلائل الانتماء. لكن المحافظة على اللغة وتمجيدها لا يعني بأي حال رفض اللغات الأخرى، أو ازدراءها. فنحن نعيش في عالم يفرض علينا ضرورة الانفتاح على هذه اللغات الأخرى، خاصة وأنها قد أصبحت وسيلة مهمة من وسائل اكتساب المعرفة، والتفاعل الإيجابي مع مجتمع المعرفة. غير أن المحافظة على اللغة العربية، الذي يعد مقوماً من أهم مقومات توطين الهوية، ومن مقومات تحقيق الأمن الثقافي، لا يتحقق من دون وجود مؤسسات تتولى هذه المهمة. ويأتي على رأس هذه المؤسسات: الأسرة، والمدرسة، والمؤسسات الدينية، فضلاً عن وسائل الإعلام. فكل هذه المؤسسات مسؤولة مسؤولية مباشرة عن المحافظة على اللغة العربية، ونشرها، وجعلها لغة الخطاب في البيت وفي المدرسة، وفي الشارع، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي أصبحت تعيش في متاهة لغوية، وأصبح بينها وبين اللغة العربية فجوة هائلة، تتسع بمرور الوقت، يغذيها التراجع الحاد الذي أصاب هذه المؤسسات، وتخليها عن أهم وأعظم أدوارها. لكن كيف يمكن لهذه المؤسسات أن تستعيد دورها، في المحافظة على اللغة العربية؟ ليكن ذلك موضوع حديث قادم، بإذن الله تعالى. د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي