كنت أتابع برنامجاً حواريّاً على قناة عربية مهاجرة حول حقوق الإنسان في الوطن العربي. وقد شدني حديث بعض المتصلين بالبرنامج الذين عبّروا عما يجول في خواطرهم حول موضوع البرنامج. قال أحدهم: "إن الوطن العربي سجن كبير، إذ إن السلطة تتحكم في إقامة الإنسان وسفره، وفي دخوله الوطن وخروجه منه، كما أنها قد تبرر قمعها -في محاصرة الإنسان مجترئة بذلك على أبسط حقوقه- بإصدار قوانين تحت ذريعة حفظ الأمن"! ولكن الواقع هو حفظ هيبة السلطة. متصل آخر قال: "إن الإنسان العربي قد عودته السلطة على حياة الخوف، ولذلك نشأ لا يعرف حقوقه ولا يريد أن يعرفها"! وتلك قضية كبرى تؤثر في نظرته للأمور ومجريات الأحداث وعلاقته مع السلطة. آخر قال: "الشعب العربي يعيش كذبة كبرى! فلا توجد ديمقراطية وعدل، على رغم أن العدل أساس الملك -كما يردد عادة- الكذبة الكبرى تطال حقوق الناس وثروات بلدانهم ومستقبل أبنائهم". أعتقد أن موضوع الحريات في الوطن العربي يحتاج إلى نقاش طويل! ذلك أن السلطات في العديد من بلدان الوطن العربي لم تعوِّد الشعوب على الحريات؛ بل ثبتت في عقول شعوبها أن الأمن هو الأساس، وأي خارج على الأمن يكون خارجاً على الإجماع! ولقد تأطر هذا الاتجاه مع ازدياد التعصب الطائفي والعشائري. وقد عزف العديد من النظم على هذا الوتر من أجل ترسيخ قيم ولاء الرعية، وصارت القبيلة أو الطائفة المدافع الأول عن طغيان السلطة، وسيطرتها على مقدرات الشعوب، بدلاً من أن تشكل قوى مجتمع مدني يمكن أن تختلف في الرأي مع السلطة وتتعاون معها في آن واحد. وقد نتج عن التحالف الاستراتيجي "المصالحي" بين السلطة والطائفة أو العشيرة أن غابت روح المبادرة لمساءلة الدول في بعض قوانينها غير المناسبة، أو ممارساتها في كبت الحريات وتجاوز الدساتير التي تضعها وازدياد حالات الفساد وسوء التصرف بمقدرات الشعوب في مشاريع لا يعرف عنها أحد ولا يسمح لأحد أن يناقشها! ومن يجرؤ على ذلك قد يُجابه بالقانون الخاص أو يدان بتهمة التعرض للأمن الوطني! والحال أن تحويل الأوطان إلى سجن كبير جسّدهُ نظام صدام في حكمه للعراق لأكثر من عشرين عاماً، وهو ذات الحال مع نظام بن علي في تونس الذي أنهاه الشعب، حيث يتم منع الناس من السفر، ولعلنا نستحضر هنا قوارب الموت التي تنقل الأفارقة نحو "نعيم أوروبا" عبر البحر! كما أن مثل هذه الأنظمة الشمولية تسيطر سيطرة تامة على الأمن بقصد "جور" السلطة، لا حفظ النظام أو حقوق الإنسان. ولعل أهم ما في قضية الأمن الوطني هو حق الإنسان في أن يمارس حقه كمواطن، وأهم ما في ذلك الحق أن يأمن على ذاته وأهله ومورد رزقه وصحته وتعليم عياله! وهذه الأمور تنتفي في الحكم السلطوي. في السجن الكبير تضيع الحقوق، وتهيمن لغة الخوف والتخويف، وتقدم بعض الحكومات "قرابين" لضحايا ليكونوا عبرة للغير! فتتم المصادرة والإقصاء وقطع الأرزاق وتضييق سبل العيش. ونحن ندرك أن هنالك ملايين العرب يعيشون في أوروبا؛ ليس من أجل لقمة العيش فحسب، بل من أجل أن يعيشوا في مناخ لا خوف فيه ولا إرهاب دولة. ولا محاصرة أو مصادرة! هذه هي حقيقة السجن الكبير، وهذا السجن يفرض عليك ماذا تلبس، وماذا تأكل، وممن تتزوج، وكيف تفكر، وكيف تكتب، وماذا تسمع، وماذا تشاهد، وماذا تقرأ، وبمن تتصل! فالرقابة الفكرية من أهم "مميزات" هذا السجن الكبير! وهذا السجن يصنف البشر -على رغم تساويهم الشكلي في الدساتير- بين الموالين والمعارضين، وبين المتنعمين بنعماء الدولة وأفيائها والمنبوذين الخارجين "من رحمتها"! وفي هذا السجن يقمع أي تحرك مدني. وقد تتم محاصرة المستنيرين والمفكرين، وكل من يحاولون إضاءة الشموع من أجل مستقبل أفضل لشعوبهم، حتى تظل الشعوب في ظلام دامس، لا تعرف كيف تطالب بحقوقها المشروعة، وتظل تلتقط على مائدة النظام ما يأتي من فتات. أما الكذبة الكبرى حول الديمقراطية والعدالة التي تمارس في الوطن العربي، فلا يوجد نظام عربي يمارس الديمقراطية والعدالة ممارسة حقيقية! وفي النظم الجمهورية التي تحولت إلى "ممالك" ديكتاتورية، حيث إن الحاكم (الجمهوري) المفترض أن يتغير كل 4 سنوات، يجلس لعقود مديدة! يجلس رئيس الجمهورية ويترك الحبل على الغارب، ويطلق الوعود دون أن يحقق شيئاً منها! في الوقت الذي يُسجن فيه المفكرون وأصحاب الرأي والعلماء والمبدعون وتصادر حريتهم في ممارسة حقوقهم المشروعة مثل حق التعبير أو حق العمل أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب والمؤسسات المدنية. فعلًا يعيش المواطن العربي كذبة كبرى حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. فأي ديمقراطية عندما يتم تكميم الأفواه، حتى لا تتحدث عن "تزوير" الانتخابات كي يفوز حزب واحد في البلاد؟! هذه هي ملامح الكذبة الكبرى! وعلى المواطن العربي أن يطلق الكذبة الصغرى، حتى لا "يزعل" منه النظام لو خالف الكذبة الكبرى! وعلى هذا المواطن المسكين أن يمشي إلى جنب الجدار يتلفت يمنة ويسرة حتى لا يؤخذ بجريرة رفع رأسه . ! فإلى متى يظل الشعب العربي يعاني ذل الكذبة نهاراً، وهمّ السجن الكبير ليلاً؟!