جاءت الانتفاضة المصريّة لتذكّرنا، بين أمور أخرى، بصعوبة عمليّات الخروج من الشرعيّات الثوريّة، والمقصود هنا شرعيّة انقلاب يوليو الناصريّ عام 1952، إلى الشرعيّة الدستوريّة. وقد تجلّت الصعوبة في تعثّرٍ وازدواج لازما محاولات الخروج الذي بدأ مع السادات قبل أن ينتكس في أواخر عهده، ثمّ كُرّرت التجربة ذاتها مع مبارك. فالسادات، الآتي هو نفسه من انقلاب يوليو، كان قد وجّه ضربات جدّيّة لتلك الشرعيّة الثوريّة ربّما كان أهمّها إنشاؤه "المنابر" كمقدّمة للأحزاب. هكذا انتقلت مصر من حكم التنظيم الواحد إلى تعدّديّة نسبيّة ومضبوطة من الأعلى. وكان السادات قد كسر السياسة الاقتصاديّة لعبد الناصر باعتماده، منذ 1974، نهج "الانفتاح"، وإصداره القانون 43 الذي يمنح الاستثمارات الأجنبيّة إعفاءات ضريبيّة. ثمّ في السنتين الأخيرتين من عهده، قُطع شوط ملحوظ آخر في التراجع عن شرعيّة 1952. ففضلاً عن السلام والانفتاح، وعن حصر تولّي رئاسة الجمهوريّة بولايتين فحسب، تبعاً لدستور 1971، طوّر السادات الحياة الحزبيّة فأجاز، في عام 1978، عودة "الوفد" تحت اسم "الوفد الجديد". كذلك عطّل في 15 مايو 1980 العمل بقانون الطوارئ. لكنّ الانتقال التدريجيّ هذا ظلّ هشّاً وموازياً للأبويّة والفرديّة اللتين اشتهر بهما السادات. في هذا الإطار عدّل، في 1980، الدستور بما يمنح الرئيس ولايات غير محدودة، وقبيل مصرعه تدهورت العلاقة بين السادات ومعظم القوى السياسيّة، فأُودع السجن في سبتمبر 1981 قرابة 1500 ناشط، في ما بدا معركة لضبط الحياة السياسيّة كادت تهدّد بإنهائها. وبمقتل السادات، وحلول مبارك في الرئاسة، أُعيد الاعتبار لقانون الطوارئ الذي يمنح الرئيس سلطات استثنائيّة لاعتقال مواطنين، ولتعطيل تجمّعات عامّة، وإصدار مراسيم من دون رجوع إلى البرلمان. صحيح أن بداية العهد الجديد شهدت قدراً من الانفراج فاستطاعت المعارضة أن تفوز في انتخابات 1984 بـ58 مقعداً، ثم في انتخابات 1987 بقرابة مئة مقعد. إلاّ أن المفاصل الفعليّة للسلطة باتت ممسوكة أكثر. وعلى العموم توقّفت، مع مبارك، وجهة الانسحاب التدريجيّ من شرعيّة يوليو، على الأقلّ في ما يتعلّق بطريقة إدارة السلطة وتوسيع الحياة الحزبيّة. ففي عام 1987 ابتدأ مبارك ولايته الرئاسيّة الثانية، وفي عام 1993 ابتدأ ولايته الثالثة، ثم في عام 1999 ولايته الرابعة. وبموازاة ذلك، وفي أوّل التعديلات الدستورية، وهو ما جرى عام ‏1980‏، صار عدد المرّات التي ينتخب فيها رئيس الجمهوريّة نفسه غير محدود،‏ وكان لتعديلات أخرى متلاحقة أن أعطت مرشّحي حزب الرئيس، "الحزب الوطنيّ الديموقراطيّ"، أفضليّة على أحزاب المعارضة فيما خصّ الانتخابات. ولئن بات ينشط في مصر، نظريّاً، عدد من الأحزاب السياسيّة، فإن إنشاء حزب سياسيّ ظلّ يستدعي الحصول على رخصة من لجنة يسيطر عليها "الحزب الوطنيّ" نفسه، كما ينبغي انقضاء خمس سنوات على تأسيس الحزب قبل تمكّنه من تقديم مرشّح للرئاسة. على أن أزمة النظام مرّت بمحطّات عدّة برزت أولاها عام 2000 حين أدّت الانتخابات إلى هزيمة أكثر من نصف مرشّحي الحزب الحاكم وفوز منشقّين عن الحزب نفسه في صراع بينهم على النفوذ والامتيازات. وظهر يومذاك ميل إلى "إصلاح" الحزب الحاكم، أي ضبط خلافاته وتجديده كأداة فعّالة في خدمة السلطة. وفي هذا الإطار ، وفي عام 2004 ظهر الأثر الملموس الأوّل لرجال الأعمال من خلال تشكيل حكومة جاء معظمها من أنصاره المباشرين، وقد ضمّت يومها بعض كبار رجال الأعمال المستفيدين من تسهيلات الدولة. وكانت المحطّة الثانية والأهمّ مع الضغوط الأميركيّة من أجل الديموقراطيّة بعد 11 سبتمبر 2001. فقد نشط مبارك في مكافحة الإرهاب وكان أحد استهدافاته من ذلك تجنيبه تلك الضغوط. لكنّ هذا لم يوقف الإلحاح الأميركيّ على التغيير، فكان من ثمار هذا الوضع أن تشكّلت في 2004 "الحركة المصريّة للتغيير" (كفاية)، وهي شبكة غير منسجمة أيديولوجيّاً تركّز على منع التجديد لمبارك والتوريث لنجله جمال. كما جرت في 2005 انتخابات فُرض على السلطة فيها أن تذعن لرقابة القضاة، وليس رقابة وزارة الداخليّة، واستطاع فيها حزب جديد لم يحظ بالترخيص اسمه "الغد"، أن يحلّ ثانياً، بعد مبارك، ولو بنسبة 8 في المئة من الأصوات. في هذه الغضون رُفضت محاولة تجديد النخبة وإطلاق حراك ما، وذلك بعدم السماح لأحزاب جديدة بالظهور. فباستثناء الحزب الناصريّ الصغير الذي سمح بإنشائه عام 1992 بقيادة مُسنّة ومتّهمة بأنها موصولة بالنظام على نحو أو آخر، استمرّ الشبّان المنشقّون عن "الإخوان المسلمين" في سعيهم للحصول على ترخيص لحزب "الوسط". وقد اعتبر هؤلاء، على نحو لا يخلو من غموض، أن الإسلام لديهم ثقافة جماعةٍ أكثر منه حكماً دينيّاً. كذلك استمرّ الناصريّون الشبّان في محاولة الحصول على ترخيص لحزب أسموه لاحقاً "الكرامة". والحقّ أنّ هذا مجتمِعاً أخاف النظام الذي صار حزبه الحاكم يتصرّف كأنه حزب واحد، فيما بقيت الصحف الكبرى مملوكة للدولة. وفي النهاية استمرّ التدهور، فيما تُرك لأطراف أخرى، عبّرت عنها شبيبة ميدان التحرير مؤخّراً، أن تتولّى مهمّة الخروج من شرعيّة يوليو 1952.