إذا ما كان هناك درس يمكن تعلمه من الأحداث المذهلة، التي تتابعت في مصر فهو أن صوت الرأي العام العربي قد بات مهمّاً، ومهمّاً جدّاً. ولا حاجة للتذكير بأنه لم يكن هناك، لزمن طويل، من كان يستمع للأصوات العربية، أو يراعي المشاعر والطموحات العربية، حتى نهض الشعب المصري الذي لم يكتف فقط بالمطالبة بسماع صوته، وإنما أجبر العرب، والغرب معاً على الاهتمام بكل ما يقوله، وما يصدر عنه. وقد شاهدتُ يوم الأربعاء الماضي مشهداً مثيراً على شاشة التلفزيون. فعندما كنت جالساً متسمِّراً أمام الشاشة أشاهد محطة "بي.بي.سي" أنا وزميلي الكاتب البريطاني "باتريك سيل" كان أحد نصفي الشاشة المنقسمة، يعرض صورة لمبارك وهو يلقي كلمة، في حين كان النصف الثاني يعرض صورة الجموع المحتشدة في ميدان التحرير. وكان الفصل، بل الانفصال بين نصفي الشاشة حقيقيّاً وليس تقنيّاً فحسب. فمبارك عندما كان يتكلم، لم يكن يسمع هتافات الجماهير المحتشدة. لقد دفع الرجل بكل الأوراق المتاحة لديه وقال إنه في منزلة الأب للشعب، وإنه الرجل الوطني، الذي لا يستمع لإملاءات الأجانب، وإنه مصلح.. وما هو أكثر من ذلك. وقد قلت في نفسي عندما رأيت ذلك الانفصال بين الرجل وجماهير شعبه إنه يحاول أن يصل بصوته ربما إلى أولئك الموجودين فيما وراء ميدان التحرير، الذين ظن أنهم يسمعونه. ولكن إذا كان مبارك تصور أو أمل في وجود مثل هؤلاء المستمعين، فالأرجح أنهم لم يكونوا يستجيبون لما يقوله. وفي هذه الأثناء كان الجمهور في الميدان، يسمع خطاب مبارك، وربما أدى إحساسهم بأن الرجل لا يستجيب لهمومهم إلى إثارة مشاعرهم، وتقوية عزمهم. لقد كان الأمر عبارة عن شيء جامد: النظام يحاول الوقوف أمام قوة لا تقهر: الجماهير. وكان من الطبيعي أن تنتصر قوة الشعب في النهاية. وقد رفض المتظاهرون ما قاله مبارك في خطابه، وقالوا إنه أقل مما ينبغي، وجاء متأخراً أكثر مما ينبغي، وبدأوا من ثم التدفق مجدداً على ميدان التحرير، ومنه إلى الشوارع، والمواقع المحيطة للتعبير عن سخطهم وغضبهم مما سمعوه. وفي النهاية، ذهب الرئيس بعد أن ربح المتظاهرون الجولة، واكتسبوا قوة هائلة، باتت تدفع إلى السعي من أجل المزيد من التغيير. ومع هذا فإن خروج الرئيس ليس هو النهاية، وإنما هو بداية عملية، لا يستطيع أحد أن يجزم بما قد تنتهي إليه من نتائج.. ولكن طالما أن الجيش هو الذي يمسك بزمام الأمور في الوقت الراهن، فإن الواجب يحتم عليه أن يستمع لما تقوله الجماهير. وطبعاً هناك أسئلة عديدة لا تزال تنتظر إجابة: هل سيسمح العسكريون بفضاء للحركة، ويفتحون المجال لعملية سياسية كاملة تقود في النهاية إلى الإصلاح؟ وهل سيكونون أكثر استجابة للطموحات المتزايدة للشباب الذين يطالبون بوظائف في اقتصاد متنامٍ، ومتوسع، يتم تقاسم الثروة فيه على نحو عادل، وتتوافر فيه الفرص المتساوية للمساهمة في صياغة مستقبل البلاد، كما تتوافر لهم فيه حرية التعبير عن سخطهم على أية سياسات لا تستجيب لطموحاتهم، وتغيير هذه السياسات إذا لزم الأمر دون خوف من الملاحقة أو القمع؟ ومن بعض النواحي يمكن الجزم بأن الكثير قد تغير بعد الحادي عشر من فبراير.. ومن نواحٍ أخرى يمكن القول أيضاً إن الكفاح لم ينتهِ بعد. فالحركة التي كسبت الجولة الحالية يمكن أن تتحول إلى قوة هائلة، ولكن النظام الذي يخشى فقدان سيطرته، يمثل هو الآخر قوة يجب أخذها في الحسبان. وفي الأسابيع والشهور المقبلة سنرى فصول هذه الدراما المثيرة وهي تتكشف في الشوارع وقاعات المفاوضات. ومما لاشك أن الدستور سيتغير، فهذا ما كان مبارك قد وعد به على الأقل. كما أن العسكريين اعترفوا بهموم الشعب وقالوا إنهم قد استمعوا لشكاواه بالفعل، ولكن سيتعين علينا الانتظار لمعرفة ما إذا كانوا قد استمعوا لتلك الشكاوى والهموم فعلاً أم لا. وعدم الاستماع إلى صوت الشعوب ليس مشكلة الزعيمين العربيين اللذين رحلا، أو مشكلة باقي الزعماء، وإنما هي مشكلة الغرب أيضاً. فخلال فترات طويلة أهملت الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول أخرى، هموم ومشاعر الشعوب العربية، وعومل العرب أجمالاً من طرف هذه الدول كما لو كانت الشعوب قطع شطرنج يمكن تحريكها عند الرغبة. وفي الوقت الذي اهتممنا نحن فيه باحتياجاتنا وسياساتنا، فإن العرب تركوا كي يتدبروا أمورهم بأنفسهم، وكي يتكيفوا مع الظروف الواقعية التي وضعوا فيها، في الوقت الذي سعينا فيه نحن إلى حماية مصالحنا، وليس مصالحهم. وهذه الظاهرة ليست بالجديدة. فعدم الاعتداد المتغطرس بالأصوات العربية بدأ مع اللورد بلفور، الذي رفض نتائج أول مسح للآراء أجري في العالم العربي بتكليف من الرئيس وودرو ويلسون في نهاية الحرب العالمية الأولى، وتبين من خلالها أن العرب يرفضون بأغلبية كاسحة خطط القوى الأوروبية لتقسيم العالم العربي بين إنجلترا وفرنسا، وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أصدر وعده الشهير قائلاً: "بصرف النظر عن رأي العرب الذين يسكنون هذه الأرض في الوقت الراهن فإن الصهيونية، سواء كانت على صواب أوخطأ، أكثر أهمية بالنسبة لنا من رغباتهم". ولم يقتصر التجاهل الغربي على ذلك الوقت بل استمر عقوداً طويلة بعده. فلقد غزونا العراق مثلاً دون أن نحسب تأثير ذلك على الرأي العام العربي، واستمررنا في تجاهل محنة الفلسطينيين ومعاناتهم ، وانخرطنا في أشكال عديدة من المعاملة السيئة، والمراقبة، والشك في العرب والمسلمين غافلين تماماً عن التأثير السيئ لذلك على شرعية وشعبية بعض النظم العربية، التي كانت تشكل حلفاء وأصدقاء لنا في المنطقة. وكل هذا يجب أن يتغير الآن بالضرورة. فعندما نظم المصريون أنفسهم، وخرجوا إلى الشوارع مطالبين بالاستماع لأصواتهم فقد أدخلوا بذلك عاملًا تحويليّاً جديداً في المعادلة السياسية للمنطقة. فلن يكون من الممكن بعد الآن للولايات المتحدة العمل والتصرف وكأن الرأي العام العربي غير موجود. ولن يكون ممكناً لها بعد الآن فرض ما تشاء من سياسات على شعوب المنطقة، وتوقع أن تلك الشعوب سوف تقبل بها من دون نقاش. ولن يكون بمقدورها بعد اليوم أخذ السجال الداخلي الإسرائيلي أو آراء الرأي العام الإسرائيلي في الحسبان وتجاهل السجال الداخلي والرأي العام في الدول العربية. إن العرب قد استمدوا الإلهام من مصر، وسيصرون من الآن فصاعداً على أن أصواتهم يجب أن تسمع وتحترم. وكل ذلك سيجعل الأمور أكثر صعوبة للغرب ولبعض صناع السياسات العرب. وكما قال أوباما فإن ما رأيناه في مصر ليس سوى البداية.. وبعد الآن لن تعود الأمور أبداً إلى ما كانت عليه. فالحقيقة أن التغيير لن يقتصر على مصر فقط، وإنما قد يمتد لغيرها وسيكون تغييراً أكبر من قدرة أي منا على التخيل.