أصدر السفير عبد الرؤوف الريدي كتاباً كبير الحجم، كثيف الدلالة بعنوان: "رحلة العمر، مصر وأميركا.. معارك الحرب والسلام"، وهو رصد لتفاصيل وأحداث وطنية إقليمية ودولية، امتزجت بسيرة الحياة الشخصية للكاتب، معبرة عن تسلسل أحداث سياسية عصفت بمصر، ووقف قربها السفير الريدي ليقول فيها كلمته، مشاركاً في بعض الأحيان في صناعة الحدث، مشاهداً ومراقباً تفاصيله وحيثياته. لقد تخرج السفير الريدي من كلية الحقوق عام 1954، وكان مشوار عمله وليد صدفة الأيام حيث قررت حكومة الثورة آنذاك فتح أبواب العمل في الخارجية لأبناء الشعب على أساس الكفاءة والنجاح في امتحان المسابقة.. فالتحق بالخارجية عام 1955 وهي السنة التي انطلقت منها السياسة الخارجية لعبدالناصر بعد التوصل لحل قضية السودان عام 1953، ولقضية جلاء القوات البريطانية عن مصر عام 1954؛ ثم عاين السفير الريدي، انطلاقاً من مهمته في الأمم المتحدة، معركة السويس التي كانت بداية حروب مصر عبدالناصر مع إسرائيل، وكان انتصار مصر إيذاناً ببدء ازدهار فكرة القومية العربية وأصبح عبدالناصر زعيماً للعرب وقائداً من قادة العالم الثالث؛ ثم لم يمر سوى عقد واحد من الزمن، حتى جاءت حرب 67 الكارثية، ثم أتت حرب 73 التي ردت لمصر اعتبارها وكان السادات هو بطل مصر السبعينيات. ويعترف السفير الريدي في كتابه بأنه لم يكن قريباً من السادات، ولكنه كان قريباً من الأحداث في حقبة البحث عن السلام عقب زيارته للقدس في نوفمبر 1977، وكان قريباً من وزراء خارجية ودبلوماسيين كبار عمل معهم. ولم يكتب السفير الريدي فقط عن الجانب الدبلوماسي وما يدور من حوار ونقاشات في الكواليس والغرف المغلقة، بل كتب أيضاً عن الأحاسيس الإنسانية التي تهز أعماق الكيان... مثل مشاعر لحظة ركوب الطائرة المتوجهة لأول مرة إلى إسرائيل التي عاملها المصريون كدولة عدو لأعوام عديدة.. وتحدث السفير الريدي عن أحلام جيله في تلك الفترة، وكيف أخذتهم أحياناً إلى الذُرى وهبطت بهم أحياناً أخرى إلى القاع... ثم قادت مصادفات الأيام السفير الريدي إلى بقعة نائية لم يكن يتصور أنه سيعمل فيها، عندما عين سفيراً في باكستان في صيف 1979، بأشهر قلائل قبل غزو أفغانستان من قبل الاتحاد السوفييتي، فأصبحت باكستان طرفاً أساسيّاً في معادلة الحرب في أفغانستان، وشهدت تلك الفترة ميلاد حركات الجهاد الإسلامي الذي لبى نداءها شباب كانت تدربهم وتسلحهم الولايات المتحدة الأميركية قبل أن ينقلبوا بعد ذلك عليها باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001. ثم ما فتئت حروب الخليج أن بدأت في مطلع الثمانينيات، ثم التحق السفير الريدي بقصر الأمم في جنيف ليكون مندوب مصر الدائم فيها، وفي هذه الأعوام الثلاثة التي قضاها هناك كانت الحرب الدبلوماسية على مصر في أوجها بسبب توقيعها على معاهدة السلام. وفي لحظة تاريخية فارقة جاء الاعتداء على السادات كنهاية لحقبة مهمة في تاريخ مصر قد يختلف عليها المؤرخون، ولكن أيّاً كان الأمر، حسب تعبير الريدي، فهي الحقبة التي دشنت لاستعادة أرض مصر وتخلصها من الاحتلال الإسرائيلي. ثم اختاره في الأخير الرئيس المتنحي مبارك ليكون سفير مصر في واشنطن، وكانت تلك ذروة المسيرة في حياة العمر، وقد كتبها السفير بشيء من التفصيل لتأثير أميركا على البلد والمنطقة. ولم يكن هناك رئيس أميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا وأثر على مصر: ترومان الذي كان أول رئيس يعترف بإسرائيل ويساندها في حربها مع العرب، وإيزنهاور الذي وقف ضد العدوان الثلاثي، وجونسون الذي كان مبالغاً في التآمر على مصر في حرب 67، ونيكسون الذي وقف مع إسرائيل في حرب أكتوبر، وكارتر الذي كان شريك السادات في كامب ديفيد، وريجان ومجموعته الطائشة، ثم جورج بوش الأب الذي دعا الرئيس المصري كأول رئيس دولة أجنبية لزيارة أميركا، كأن هناك أملاً في شيء جديد من أجل سلام الشرق الأوسط. وبعد رحلة العمر التي استعرضها السفير عبد الرؤوف الريدي بالدراسة والوصف والتحليل، وبعد عمر مديد، وتجربة ميدانية واسعة ومطلعة، اعترف في الصفحات الأخيرة للكتاب بأن مفهوم الأمن القومي المصري لا ينبغي أن يبقى مقتصراً فقط على الجانب الأمني والعسكري والحفاظ على حصة مصر العادلة من النيل... بل يجب أن يتناول تحديات الماء والطاقة والبيئة والشغل والتعليم وتزايد الاحتقانات في بيئة الوحدة الوطنية. وعندما بدأ الريدي رحلة العمر في ثلاثينيات القرن الماضي كان تعداد سكان مصر لا يتعدى بضعة عشر مليون نسمة، بينما تجاوز تعداد مصر اليوم الثمانين مليوناً.. وفي الفقرة ما قبل الأخيرة من الكتاب استوقفتني عبارات السفير الريدي عندما كتب: "تقف مصر الآن وأمامها تحديات الداخل الكبيرة كما تقف على مقربة من عتبة جديدة لتستقبل قادم الأيام، وسط سحابات من القلق والغموض..." ورأيت هذا القلق في أعين السفير وهو يهدي لي كتابه في مقر المجلس المصري للشؤون الخارجية أياماً قلائل قبل اندلاع ثورة مصر. وما كان أحد من المجلس يتوقع ونحن نوقع على اتفاقية تعاون مشترك بيننا، ونتحدث في أكاديمية علمية كبيرة عن بعض الأحداث الدولية، أنه سيقع في مصر ما كان قد وقع في تونس. ولكن خاتمة كتاب رحلة العمر كانت توحي بذلك. ويقيني أن الكتابة في صفحات التاريخ عبر سرديات الذكريات، تولد خاصة عند الدبلوماسيين الكبار قضايا وتعطي حقائق لم تكتب خاتمتها بعد.