بثلاث جمل اختصر الكواكبي الوصفة على نحو واضح: الأولى هي "الشعور بالحاجة إلى التغيير"، وهو بذلك يتفق مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. والثانية أنه "يجب حدوث التغيير سلمياً وبالتدريج"، وفي ذلك يتفق مع سنة الأنبياء في التغيير الاجتماعي، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والثالثة أنه "لابد من تصور البديل"، وليس القول بأنه ليس من بديل في الأمة، وفي ذلك يتفق مع ديكارت الذي يحذر من هدم البيوت القديمة مهما كانت سيئة، إذ لا يفعل ذلك مهندس عاقل. ومن الملفت للنظر أن القوانين الثلاثة التي وضعها الكواكبي قبل قرن من الآن للتخلص من الاستبداد، تحظى بقدر غير قليل من المصداقية وتدل على عمق الوعي الاجتماعي الذي كان يتحلى به، كما تشي بأنه كان على اتصال بغذاء فكري غير تقليدي حتى استطاع الوصول إلى هذه القوانين في نهاية كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". يتساءل الكواكبي وهو يطرح 25 فكرة في المسألة السياسية: ما هي الأمة؟ ما هي الحكومة؟ ما هي الحقوق العامة؟ ما هي وظائف الحكومة؟ ما هي المراقبة على السلطة؟ كيف يكون فصل السلطات؟ وكيف يتحقق استقلال القضاء؟ وكيف توضع القوانين؟ وما هو القانون وقوته؟ ليصل في النهاية إلى هذا السؤال الخطير والذي أبدع في الإجابة عليه، ويتعلق بـ"مبحث السعي في رفع الاستبداد"، فيقرر ما يلي: 1- الأمة التي لا تشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية. 2- الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج. 3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة البديل. وكما يقول راسل فإن الحياة الديمقراطية هي "مثل المزاج العلمي في حياتنا الإدراكية، وهو محطة متوسطة بين الشكية والعقائدية ويرى أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها تماماً كما لا يمكن عدم الوصول إليها إطلاقاً، فهي في المتناول إلى درجة معينة، لكن تناولها لا يتم إلا بمشقة بالغة"، أو كما قال الفيلسوف الألماني ليسنج، فإن الحقيقة ليست لنا حتى نملكها، بل أمامنا المحاولة المقدسة:"لو وضع الله الحقيقة المطلقة في يده اليمنى وحب الكشف عنها في يسراه ومعها الخطأ، ثم قال لي اختر! إذن لجثوت على ركبتي ضارعاً وقائلاً: بل اعطني ما في يسراك لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك". ويقترح "راسل" طريقة مثيرة لتعليم الأطفال وهي عرض أشد الآراء تضارباً على وعيهم من أجل ثلاثة أمور: تخليصهم من الإيديولوجيات الصارمة وتحصينهم ضد البلاغة والمحسنات اللفظية، وهي في لغتنا العربية هائلة، فلاشيء يغتال الوعي مثل كلمات السحر التي تعتلي ظهر الصوت. وأخيراً بناء العقل النقدي. يقول راسل: "لو قدر لي التحكم في شؤون التربية، لعرضت الأطفال للاستماع إلى ما يقوله أكثر الدعاة غلواً وعنفاً من جميع الفرقاء، وعن مختلف المواضيع المهمة، على أن يتحدث هؤلاء الدعاة إلى المدارس عن طريق الإذاعة البريطانية. وعلى المدرس بعد ذلك أن يدعو الطلاب لتلخيص الحجج التي استعملت، وأن يدخل برفق في عقولهم الرأي القائل بأن البلاغة تتناسب تناسباً عكسياً مع المنطق السليم. ولا ريب أن من أهم الأمور لمواطني النظام الديمقراطي الحصول على المناعة من البلاغة".