قد لا يكون سقوط النظام السابق في مصر كافيّاً وحده بل لعله مجرد بداية يتعين أن يعقبها تفكيك كامل للنظام السابق والقطع مع ممارسات الدولة البوليسية، كما لا بد أيضاً من إزالة الآلة الدعائية التي كان النظام يعتمد عليها ومعها جميع مظاهر المحسوبية والفساد الذي خنق المصريين والتأسيس لمجتمع حر وديمقراطي. وفي هذا السياق، من المفيد التذكير ببعض الأخطاء القاتلة التي ارتكبها النظام السابق على امتداد أيام الثورة التي عجلت برحيله من الحكم على نحو أذهل المراقبين في الغرب بعدما رأوا في هذا النظام نموذجاً للاستقرار المكين غير القابل للاهتزاز، وأول تلك الأخطاء التي ارتكبها النظام هي إرساله لمؤشرات مبكرة أثناء الأيام الأولى لخروج المصريين إلى الشارع مفادها أنه مستعد لاستخدام القوة ضد المتظاهرين والضرب على يد الشعب الثائر بدل السعي إلى استيعاب مطالبه. وقد كنت في تلك الفترة متواجداً بميدان التحرير عندما أرسل النظام طائرات مقاتلة لتحلق فوق رؤوس المحتجين في القاهرة، حيث كان الهدير عاليّاً والرسالة واضحة ومؤداها أن النظام ينوي قمع صوت الشعب وفرض التراجع والنظام. وبعد مرور أسبوعين على التظاهر الصاخب في الشوارع سقط ما لا يقل عن 400 مصري بريء فيما جُرح آلاف آخرون. ولكن بدلاً من العودة إلى الحياة الطبيعية كما كان يتمنى النظام زادت المحاولات القمعية التي مارستها الشرطة في تأجيج غضب المحتجين ودفع قطاعات واسعة من الشعب إلى التعاطف مع الشباب والنزول إلى الشارع للمشاركة في الثورة. وهكذا تطورت الاحتجاجات إلى أكبر ثورة شعبية تشهدها مصر في تاريخها الحديث يوحدها مطلب واحد هو إسقاط النظام وتحدي الجهاز الأمني الذي تهاوى، في لمح البصر. وقد أخطأ النظام مرة ثانية عندما حاول تصوير رغبته في التمسك بالسلطة والبقاء في الحكم على أنها استعداد لبدء إصلاحات سياسية مشترطاً اندراجها في إطار الشرعية الدستورية والنظام القائم. ولكن ذلك لم يكن سوى محاولة يائسة لتحييد الثورة، وقد أحس المتظاهرون بالغضب عندما استشعروا مناورات النظام ورهانه على رجوع المحتجين إلى بيوتهم لوأد الثورة في مهدها والاكتفاء بتقديم بعض التنازلات. وقد نسي النظام أن سبب خروج الناس للاحتجاج هو تلاشي أي إمكانية للتعبير الحر والمطالبة السلمية بالإصلاح. وأضاف النظام على ذلك هفوة ثالثة عندما سعى إلى الالتفاف على الثورة مراهناً على أن الشباب سرعان ما سيملون، وأن خبرتهم السياسية لا تؤهلهم للصمود طويلاً في التظاهر، فأحنى ظهره لفترة قصيرة متعهداً بسلسلة من التعديلات الدستورية التي لم ترضِ جمهور المحتجين الذين تزايد عددهم في ميدان التحرير مع مرور كل يوم، وبدلاً من قبول تنازلات النظام أصر الثوار على إسقاط مجمل منظومة الحكم ومعه الرموز التي استفادت من بقائه وأثرت نفسها على حساب الشعب. وقد أدرك المحتجون منذ البداية أن رجال النظام الذين أشرفوا على الفساد والحط من كرامة المصريين لا يمكنهم أن يغيروا جلدهم بين عشية وضحاها ويتحولوا إلى حماة للديمقراطية ومؤسسي نظام جديد. وهذا ما يقودنا إلى الخطأ الرابع الذي يفضح نوايا النظام المريبة، فبعدما اشتدت الأزمة خرج عمر سليمان، نائب الرئيس المعين، ليدلي بتصريح غريب قال فيه إن مصر غير مستعدة الآن للديمقراطية! وهذا التصريح كان كافيّاً لإقصائه من الساحة إلى جانب بعض رموز النظام الفاقدين للمصداقية. أما الخطأ الخامس فكان تعويل النظام على آلة دعائية فجة لا تتوقف عن بث الأكاذيب وتلميع صورته، حيث اعتقد دهاقنة العهد البائد أن تزييف الصورة كفيل بثني المتظاهرين وإعادتهم إلى بيوتهم، وهو ما أغاظ المصريين الذين لم تنطلِ عليهم الحيلة وحاصروا مقر التلفزيون المصري للتعبير عن غضبهم. ومثلما كان الإعلام قد فشل في حرب 1967 في نقل الحقيقة وانخرط في الحديث عن نصر وهمي فيما كانت القوات المصرية تتعرض لمحنة كبيرة عاد اليوم أيضاً ليكرر الخطأ ذاته عندما أصر في البداية على تجاهل مطالب المحتجين ونقل أخبار مبتورة تتحدث عن عشرات المحتجين، وعندما تطورت الثورة إلى احتجاجات مليونية انخرط الإعلام الرسمي في مناقشات جانبية حول القضايا القانونية والدستورية التي تصب جميعها في ضرورة البدء بإصلاحات تدريجية والانسجام مع مقتضيات الدستور. وبالطبع كانت مثل هذه المناقشات البيزنطية مثيرة للسخرية لأنها المرة الأولى في تاريخ الثورات التي يلجأ فيها المنتفعون من النظام القائم إلى تعطيل الثورة، أو الوقوف في وجهها باستخدام مبررات دستورية قامت الثورة أصلًا للإطاحة بها وتأسيس شرعية بديلة عنها! وأكثر من ذلك المحاولات العبثية التي بذلها النظام بتكليف عناصر منه للتفاوض مع المتظاهرين والسعي إلى وساطة بين النظام والثوار للتوصل إلى حل للأزمة، فيما الحقيقة هي أن الثوار قالوها بصوت عالٍ، لا لبس فيه، أن "الشعب يريد إسقاط النظام" برمته وليس تجميل صورته بإصلاحات هنا أو هناك. وما لم تفهمه وسائل الإعلام الرسمية هو أن الثورة كالعاصفة تأتي لتجب ما قبلها ولا ينفع معها التفاوض، فلم يسجل التاريخ أن الثورات تأتي وفقاً للدساتير، ولم يسجل أيضاً أمثلة عن جلوس الثوار إلى طاولة واحدة مع رموز النظام السابق، فلو قام بذلك المحتجون الشباب لما سموا ثواراً ولأصبحوا جزءاً من المؤسسة القائمة التي انتفضوا في المقام الأول للإطاحة بها. وبالطبع كانت الخطيئة الأكبر التي اقترفها النظام هي الاعتقاد بأن الشعب المصري سيواصل صبره على الظلم الاجتماعي وغياب الحرية والكرامة.