لم تكن كثافة التركيز الأميركي، الإعلامي والدبلوماسي، على التطورات الدراماتيكية في بعض البلدان العربية خلال الأسابيع الأخيرة الماضية، لتقلص انشغال واشنطن بجبهة أخرى لا تبدو أقل أولوية وسخونة في حسابات الاستراتيجية العامة للدولة الأعظم في عالم اليوم، ويتعلق الأمر هنا بالحرب الدائرة في أفغانستان وباكستان. وحيث أنها الحرب الوحيدة تقريباً التي أقر أوباما سلفَه بوش الابن في كونها ضرورية وشرعية، وربما "أهم من أن تترك للعسكريين" وفق مرئيات "الدبلوماسية الناعمة" للإدارة الحالية... فقد وقع اختيار أوباما لدى دخوله البيت الأبيض على الدبلوماسي الأميركي البارز ريتشارد هولبروك ليصبح مبعوثه إلى أفغانستان وباكستان، بعد أن أصر على أنه كي تكون المهمة فعالة ينبغي أن تشمل البلدين معاً. باشر هولبروك مهامه وشرع في فتح ملفات البلدين، وأخذ يضع ملامح استراتيجية أميركية جديدة حيالهما... لكنه توفي إثر عملية جراحية لترميم الشريان الأورطي في ديسمبر الماضي. وكمؤشر على أن تطورات "الربيع العربي" لم تصرف انتباه واشنطن عن الجبهة الأفغانية الباكستانية، فقد أعلنت رسمياً تعيين مبعوث جديد إلى البلدين هو مارك جروسمان، خلفاً لهولبروك. ففي مذكرة التعيين الصادرة يوم الاثنين الماضي، أثنت وزارة الخارجية الأميركية على مؤهلات جروسمان وقدراته الدبلوماسية، وقالت إنه "يعرف حلفاءنا ويعرف كيفية حشد جهد كبير لمواجهة التحديات المشتركة"، وأكدت ثقتها في قدرة المبعوث الجديد على "الانطلاق بسرعة". ويعتبر السفير المتقاعد غروسمان، دبلوماسياً مخضرماً يتمتع بخبرة واسعة، إذ عمل في ظل إدارات جمهورية وديمقراطية مختلفة، وأمضى قرابة ثلاثين عاماً من العمل في وزارة الخارجية، شغل خلالها وظائف رفيعة وأشرف على ملفات حساسة وشارك في الإشراف على أخرى. وتعود علاقة جروسمان بباكستان وأفغانستان إلى وقت مبكر من حياته المهنية، فما أن تخرج ذلك الشاب المولود عام 1951 في لوس أنجلوس، من جامعة كاليفورنيا، وحصل على الماجستير في العلاقات الدولية من مدرسة لندن للاقتصاد، حتى التحق بالخارجية الأميركية عام 1976 ليخدم بسفارة واشنطن في إسلام آباد، قبل أن ينتقل منها عام 1983 ليصبح رئيس المهام الدبلوماسية في السفارة الأميركية بأنقرة. وفي عام 1989 عُين جروسمان مديراً للعمليات في وزارة الخارجية ومساعداً للوزير، قبل أن يعود عام 1994 إلى أنقرة كسفير للولايات المتحدة فيها. ورغم أنه عاد منها في عام 1997، ليصبح مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، فقد اطلع بالأشراف على ملف العلاقات الأميركية التركية خلال السنوات التالية. وتمت ترقية غروسمان في عام 1998 إلى منصب مسؤول التعاون الأمني وحقوق الإنسان والديمقراطية، حيث كان مسؤولاً عن حوالي أربعة آلاف من موظفي الخارجية ينتشرون في 50 موقعاً خارج تراب الولايات المتحدة، مع ميزانية تتجاوز 1.2 مليار دولار. ثم عمل مديراً عاماً للخدمة الخارجية للولايات المتحدة، وبعدها مديراً لقسم الموارد البشرية حيث قام بتجديد القسم وتطويره في مجالات الاستراتيجية، والتدريب، وتحديد المهام، واستبقاء الأفراد. وفي عام 2001 عُين جروسمان وكيلاً لوزارة الخارجية للشؤون السياسية، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى تقاعده عام 2005. وقبل ذلك بعام واحد حصل غروسمان على أرفع رتبة في سلك الخدمة الخارجية وهو "شهادة سفير". ولدى تقاعده مُنح وسام الخدمة المتميزة. ومنذ ذلك الوقت ظل جروسمان يدرس في جامعة جورج تاون، ويرأس مجلس المستشارين المختص بالموافقة على منح درجات الماجستير في برنامج الخدمة الخارجية بالجامعة، كما كان نائباً لرئيس مجلس إدارة "مجموعة كوهين"، وهي مجموعة شركات للاستشارة المتخصصة يرأسها ويملكها وزير الدفاع الأميركي الأسبق ويليام كوهين. المهمة الأميركية في أفغانستان وباكستان ليست مجرد مهمة دبلوماسية، بل تقود إيقاع حركتها نتائج المواجهة العسكرية مع "طالبان" و"القاعدة"، لذلك فإنجاز الشق الدبلوماسي من المهمة يتطلب خبرة في استثمار ميزان القوة العسكرية وتحويله إلى قرارات ومواقف سياسية، وخبرة في مناقشة القادة العسكريين حول قضايا من داخل اختصاصهم ومن خارجه، فهم من يدير الموقف هناك على الأرض، وعلى رأسهم قائد قوات التحالف الغربي الجنرال الأميركي بترايوس. هذا مع العلم أن خلاف هولبروك مع الجنرال ماكريستال، قائد القوات الأميركية بأفغانستان سابقاً، زاد من التعقيدات في مهمته. بيد أن جروسمان كان، ولفترات طويلة، على تماس مباشر مع البنتاغون وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وقادتهما العسكريين. فانشغاله بملفات تركيا وأفغانستان وأوروبا، لم ينفصل عن قضايا الأمن والتحالف الاستراتيجي بين الغرب وتركيا. فبعد مغادرته إسلام آباد عام 1983، انتقل مباشرة إلى قيادة "الناتو"، حيث عمل نائب مدير مكتب أمين عام الحلف، ولما عاد إلى الخارجية الأميركية عام 1986 تولى إدارة التعاون الأمني. وحين كان مساعداً لوزير الخارجية، لعب دوراً كبيراً في التنظيم والإعداد لقمة "الناتو" التي عقدت في واشنطن عام 1999. وخلال العام نفسه ساهم في إدارة شؤون المشاركة العسكرية الأميركية ضمن قوات "الناتو" في حرب كوسوفو. كما شارك في حشد الدعم الدبلوماسي الدولي للحرب على الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. وجذب الأنظار إليه خلال إدارة بوش الأولى بانتقاده قيام المحكمة الجنائية الدولية، قائلاً إنها "مؤسسة سلطة بدون رادع". وأهم من ذلك أن جروسمان كان مساعداً لهولبروك خلال إدارته اتفاقات دايتون التاريخية التي أنهت الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك عام 1995، ومثلت أبرع نموذج لعمليات إدارة التفاوض وإنهاء الصراع. لذلك يتعين على غروسمان ملء الفراغ الكبير الذي أحدثته وفاة هولبروك الذي كان يطلق عليه "كيسنجر البلقان"، فيما ينتظر أن تبدأ الولايات المتحدة سحب أول دفعة من قواتها في أفغانستان، وتتزعزع صورة الرئيس كارزاي في الداخل، ويزداد سعيه لإشراك "طالبان" في جهود السلام والاستقرار. أما باكستان التي تشهد مزيداً من الخلافات الداخلية، فتمر علاقاتها مع الولايات المتحدة بتدهور كبير على خلفية اتهام "دبلوماسي" أميركي بارتكاب جريمتي قتل في لاهور. كل ذلك يلقي بظلال من الشك حول إمكانية التوصل مع جروسمان في أفغانستان وباكستان إلى ما لم يتوصل إليه هولبروك، لاسيما في هذا الوقت الذي تنتقل فيه عدوى الاضطرابات الداخلية من دولة شرق أوسطية إلى أخرى، على نحو وبسرعة غير متوقعين! محمد ولد المنى