عقد المعرض الدولي الأخير للنشر والكتاب في دورته السابعة عشرة بمدينة الدار البيضاء من 10 إلى 20 فبراير، وذلك تحت شعار "القراءة الهادفة لبناء مجتمع المعرفة"، وتبنت الوزارة حسب تعبير وزير الثقافة الأديب بنسالم حميش مسعى نوعيّاً لفعاليات المعرض في اتجاه توسيع وتقوية جاذبيته الثقافية والتجارية والإعلامية، وضمان المزيد من الامتداد لأدائه التثقيفي والتكريس الأمثل لحظوته لدى كل المهتمين بالكتاب وقضاياه وطنيّاً وعربيّاً ودوليّاً، وهي مستويات تتوجه جميعها إلى الإسهام في الإرساء المطرد للقراءة الهادفة كتربية مستدامة، ومفتاح حاسم لمجتمع المعرفة. كما تم تخصيص ثلاث قاعات رئيسية لاستقبال الندوات والقراءات أطلق عليها أسماء ثلاثة من أعلام الثقافة المغربية والعربية فقدناهم خلال سنة 2010 وهم الأساتذة محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وإدمون عمران المليح. وقد شاركت في موضوعين لهما علاقة بالدبلوماسية الثقافية، كعنصر جديد في العلاقات الدولية الجديدة، وحاولت مع الإخوة المتدخلين من سفراء ومفكرين عرب وأجانب استعراض أهم الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع. انطلقت من واقع الولايات المتحدة الأميركية، ليس كدولة تتمتع باقتصاد ليبرالي، وأراضٍ شاسعة، وثروات لا تـُعـدُّ ولا تُحصى، ولا كدولة لأعراق متعددة قابلة للتعايش، ولكن كتحالف قوي بين رجالات الدولة، ورجالات السياسة والأعمال من جهة ورجال الفكر والمؤسسات الثقافية من جهة أخرى لرسم خريطة طريق فكرية تنظِّر للمصلحة العليا القومية للولايات المتحدة الأميركية التي تلقي بظلالها على سياستها الخارجية ومن ثم على العلاقات الدولية. قلت إن الجميع في الولايات المتحدة الأميركية اقتنع اليوم بجدوى وأهمية دبلوماسية القوة الثقافية أو الناعمة (Soft Power) كبديل للقوة الخشنة (Hard Power) التي فقدت هيبتها، ويكفي قراءة أحداث مصر وتونس وما يقع الآن في ليبيا واليمن والبحرين وغيرها من الدول، حيث المطالبة بالتغيير وإعمال أدوات الديمقراطية لم تأتِ من دبّابات وصواريخ أجنبية وإنما من عوامل داخلية محضة. ويصح الرجوع هنا إلى خطاب أوباما الذي ألقاه في جامعة القاهرة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، والذي يحمل أكثر من دلالة، حيث اعترف ضمنيّاً بفشل الدبلوماسية الخشنة لسلفه، وبالأخص مع العالم الإسلامي؛ كما أن حرب أميركا على الإرهاب كانت فاشلة من ثلاثة جوانب: الجانب الفلسفي، والجانب الاستراتيجي، والجانب الميداني. أما من حيث الجانب الفلسفي، فبعد سنوات من الحرب الأميركية على الإرهاب، لم تحقق الإدارة الأميركية أي نجاح نهائي سواء في العراق أو في أفغانستان والآن في باكستان. والتخوف من الإرهاب لم يحقق أي تحالف استراتيجي كامل مع القوى الدولية الأخرى. فاستطاعت "القاعدة" في أفغانستان الفوز بالجولة الأولى على الصعيد الفلسفي إن لم نقل الماكرو- سياسي، فخرجت إدارة بوش عن الطابع الكلينتوني للهيمنة، وجرتها سياسة محاربة الإرهاب إلى الدخول في مواجهات مع عدو ليس له كيان ترابي محدد، جاعلًا من الهيمنة الأميركية هيمنة حربية إن لم نقل احتمالية؛ ومن حيث الجانب الاستراتيجي لم تستطع الإدارة الأميركية تفعيل مشروع الشرق الأوسط الكبير لتعميم الديمقراطية في كل العالم العربي بعد سقوط نظام صدام. وأخيراً هناك فشل في الجانب الميداني: فدخول أميركا أفغانستان سنة 2001 والعراق سنة 2003 لم يحمل الفوز الذي طالما دافع عنه الرئيس السابق. إذ لاقت القوات الأميركية في الساحة مشاكل ميدانية استعصى عليها تثبيت الأمن وإعادة الأعمار. ففي مثل هذه الحروب المضنية، يحتاج المستعمر الدخيل إلى جيش من المهندسين لخدمة الإعمار، وقوات برية لا تحصى لقتال الميليشيات والعصابات المتفرقة إلى غير ذلك؛ كل هذا جعل من نجاح أميركا في حربها على الإرهاب أمراً بعيد المنال إن لم نقل مستحيلاً. لقد كان أوباما يوحي ضمنيّاً بضرورة تفعيل أدوات الدبلوماسية الناعمة القادرة على الاستقطاب والإقناع أكثر من القوة الخشنة المتأتية من التفوق العسكري التي تولِّد الإجبار والإكراه؛ وهناك كتاب مرجعي مهم أصدره في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عميد في جامعة هارفرد الأدميرال جوزيف ناي، سماه "القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية" وأكد في أكثر من فصل بالحُجّة والإقناع مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية أو ما سواهما، فنجده يكتب مثلًا: "إنه وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوة الخشنة، ومن خلال استعمال القوة من قبل القوى الكبرى، إلا أنه قد يشكل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية"، ولذا فأميركا: "إن أرادت أن تبقى قوية، فعلى الأميركيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة". إن القوة الناعمة لها قدرة كبيرة على تحقيق مردودية قصوى في الشؤون الدولية من خلال الاستقطاب أكثر مما يمكن تحقيقه عبر الإكراه المادي، وباستطاعة دولة كالولايات المتحدة الأميركية أن تحصل من خلال دبلوماسيتها الناعمة على النتائج ذاتها التي تريدها في السياسة الدولية أو في النظام الدولي. لما سقط نظام صدام، لم يحدث أي تغيير جذري في الدول العربية المجاورة أو البعيدة، وكان هذا التغيير عن طريق الاحتلال وذا تكلفة مادية كبيرة (تكلفة الحرب تتعدى 768 مليار دولار) كما أنتج تناقضات بين منطق الشعب ومنطق الحفاظ على مصالح أميركا؛ ولكن لما سقط النظام التونسي (ثماني سنوات بعد اجتياح العراق) انطلاقاً من العامل الداخلي، تحاول دول أخرى اللحاق بهذه التجربة، ولكن هذه المرة دون تأثير لا القوة الخشنة ولا القوة الناعمة الأميركية، لأن هذه الأخيرة تماهت مع تداعيات القوة الخشنة إلى درجة التوأمة بل والإدغام، فأفرزت واقعاً عربيّاً مناهضاً لسلوك الإمبراطورية وأخطائها.