تهدد العالم أزمة غذائية ستكون لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية خطيرة على كافة البلدان، وذلك بشهادة العديد من المنظمات الدولية، بما فيها البنك الدولي، والذي أشار في الأسبوع الماضي إلى أن الأزمة الغذائية تهدد الأمن العالمي. وهناك أسباب عديدة لحدوث الأزمات الاقتصادية، إلا أن أحدها يكمن في الفرق الشاسع بين العرض والطلب على السلع والخدمات. لكن الأزمات الحالية، بما فيها أزمة الغذاء في عام 2008، والأزمة الحالية، حدثتا أساساً نتيجة لعوامل تتعلق بحركة رؤوس الأموال والمضاربات التي بدأت تكتسح المعاملات في التجارة الدولية. لقد أصبحت المضاربات هي التي تحدد أسعار الكثير من السلع الاستراتيجية في الأسواق، ليس عن طريق إزاحة القوانين الاقتصادية، وبالأخص قانون العرض والطلب، وإنما من خلال إيجاد مستويات وهمية من العروض والطلبات في الأسواق الفورية وبورصات السلع حول العالم. وفي سنوات العقد الماضي انصبت المضاربات على أسواق المال وقطاع العقارات، مما ضخم هذه القطاعات بصورة مصطنعة ونجمت عنها أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة وانهيارات متتالية في البورصات العالمية، إلا أنه مع منتصف عام 2008 فقدت هذه المضاربات زخمها في الأسواق ووصلت إلى حد التشبع، مما تطلب نقل حمى المضاربات إلى تجارة السلع، وأدى ذلك إلى تضاعف أسعار الذهب والنفط ومن ثم المواد الغذائية. والحال أن العالم يقف الآن أمام موجة جديدة من المضاربات المحمومة، وبالأخص على أسعار المواد الغذائية والنفط، في الوقت الذي لا يعاني فيه أيٌ من هذين القطاعين من نقص في الامدادات. صحيح أن هناك أسباباً موضوعية أدت إلى تدني إنتاج المواد الغذائية، كالتقلبات المناخية والكوارث الطبيعية واستخدام المنتجات الزراعية لاستخلاص الوقود الحيوي، إلا أن هناك عوامل أخرى ساعدت على زيادة الإنتاج، مما أدى إلى عدم حدوث خلل كبير بين العرض والطلب يستدعي هذا الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية لولا أن قوة المضاربات استعادت قوة اندفاعها بعد الاستقرار النسبي لأسواق المال العالمية. ويبدو أن المضاربين لا يدركون خطورة تلاعبهم بأسعار المواد الغذائية، إذ أن التلاعب بهذه الأسعار سوف يضرهم في نهاية المطاف، حيث تشير العديد من الدلائل إلى حدوث تطورات خطيرة، كالاحتجاجات الاجتماعية في العديد من بلدان العالم. وإذا كانت المضاربات في البورصات والمؤسسات المالية قد مست شريحة معينة من المجتمع، فإن خطورة المضاربات في المواد الغذائية، والتي بلغت مستويات عالية جداً، سوف تمس كافة الفئات، وبالأخص تلك التي تعتمد على المواد الغذائية المدعمة، حيث تعجز العديد من الدول عن مجاراة نسب الغلاء المرتفعة بسبب عدم توفر الموارد المالية اللازمة في موازناتها الحكومية لزيادة الاعتمادات المخصصة لدعم أسعار المواد الغذائية الرئيسية، علماً بأن هناك بلدان أخرى لا تقدم مثل هذا الدعم، رغم تدني مستويات المعيشة، مما يفاقم حدة هذه الأزمة وانعكاساتها على الفئات الدنيا من المجتمع. لقد تحولت أسواق السلع في العالم، بما فيها السلع الغذائية إلى مرتع لـ"مافيات" المضاربين والذين لا توجد حدود لسعيهم لتعظيم الثروات الناجمة عن المضاربات وليس عن إنتاج حقيقي يساهم في زيادة معدلات النمو ويرفع المستويات المعيشية لأفراد المجتمع. أما المسؤولية فتقع على عاتق البلدان المتطورة والتي تتبعها شركات المضاربة، كما أن الأسواق الفورية للتداول في مختلف أنواع السلع تتمركز في هذه البلدان والتي تقع عليها أيضاً مسؤولية انتشال العالم من أزمته الغذائية لاعتبارات إنسانية وأمنية واقتصادية يمكن أن تسيء إلى الاقتصاد العالمي من خلال أزمات ذات أبعاد خطيرة ومكلفة. د. محمد العسومي