يعتبر الطبيب المسلم الشهير ابن سينا، من أوائل الأطباء الذين أدركوا تأثير الحالة النفسية على الحالة الجسدية، وأيضاً تأثير الحالة الجسدية على الحالة النفسية. هذا الاختراق في فهم طبيعة التفاعل بين الحالة النفسية وبين العمليات الفسيولوجية داخل الجسم، وقدرة كل منهما في التأثير على الآخر، يمكن اعتباره بداية الفهم الحالي لترابط الصحة النفسية والصحة الجسدية، أو الترابط بين المرض الجسدي والمرض النفسي، وهو الإدراك الذي أكده الطبيب النمساوي "سيجموند فرويد" من خلال إظهاره لإمكانية علاج بعض الأمراض البدنية الجسدية من خلال تدخلات نفسية علاجية. هذا الإدراك المتزايد لقوة هذه العلاقة، أدى إلى ظهور فرع حديث نسبياً في عالم الطب يعرف بالطب النفسي الجسدي، يهتم بدراسة العلاقة بين العوامل الاجتماعية والنفسية والسلوكية وبين صحة الإنسان بوجه عام، وخصوصاً طائفة الأمراض التي تعرف بالأمراض النفس-جسدية (Psychosomatic Disorders). ويمكن تبسيط العلاقة بين الصحة الجسدية والصحة النفسية من خلال بعض الأمثلة؛ فالمريض المصاب بمرض مزمن مثل السكري أو الفشل الكلوي، يمكنه أن يقع ضحية للاكتئاب النفسي بسبب مرضه المزمن. وفي نفس الوقت، من الممكن أن يؤدي التوتر الشديد والمزمن للإصابة بارتفاع ضغط الدم، وبآلام أسفل الظهر، دون أن يكون هناك سبب عضوي لتفسير هذه الآلام. ولا تقتصر هذه العلاقة على الأمراض فقط، بل تمتد أيضاً إلى فعالية وكفاءة طرق العلاج المستخدمة. وهو ما يتضح من خلال الممارسة الطبية المعروفة بالعلاج "البلاسيبو" أو العلاج الوهمي، أو الإيحائي. في هذا العلاج، يتم وصف مادة ليست ذات أية فعالية، مثل حبوب من النشا، أو كبسولات من السكر، أو الفيتامينات، أو أحياناً جراحات وتدخلات علاجية وهمية زائفة. ويتسبب استخدام هذا العلاج أو الجراحة في أحيان كثيرة، في ترك أثر واعتقاد لدى المريض بأنه سيحسن من حالته الصحية، وهو ما يولد شعوراً بأن الآلام أو الأعراض قد خفت بالفعل نتيجة العلاج، رغم أن المريض لم يتلق في الأساس أي نوع من العلاج. ويفسر الأطباء هذه العملية برمتها، على أنها نتيجة كون الكثير من الأعراض، مثل الألم لغرض وقف استخدام العضو المصاب، أو رفع درجة حرارة الجسم لخلق بيئة غير مناسبة لنمو وتكاثر الجراثيم، هي وسائل غير مريحة، أو مكلفة بيولوجياً للجسم. ولذا في حالة ما اعتقد الإنسان أن مرضه يتم علاجه، فسرعان ما يتخلص الجسم من هذه الميكانيزمات الدفاعية الداخلية، معتمداً حينها على العلاج الخارجي. وفي أحيان أخرى، قد تكون الأعراض نفسية المنشأ، أي أن المريض لا يوجد لديه سبب عضوي، وهو ما يجعل العلاج الوهمي حينها نوعاً من العلاج النفسي. ومؤخراً امتدت جوانب العلاقة بين الحالة النفسية وبين فعالية وتأثير العلاج، لتشمل الأدوية والعقاقير الطبية، بحيث أصبحت الحالة النفسية تعتبر من العوامل المؤثرة في فعالية العلاج، وفي نجاحه في تخفيف الأعراض والعلامات. وهو ما تأكد مرة أخرى بداية الأسبوع الحالي، مع ظهور نتائج دراسة قام بها علماء جامعة أوكسفورد ببريطانيا، ونشرت نتائجها في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة (Science Translational Medicine)، أثبتت أن الحالة النفسية للمريض، وخصوصاً اعتقاده بفعالية العلاج، تؤثر بشكل هائل على النتيجة العلاجية النهائية. فبعد تعريض سيقان 22 شخصاً لدرجة مؤلمة من الحرارة، طلب منهم تحديد مدى الألم على مقياس من 1 إلى 100 نقطة، حيث قيموا جميعهم الألم عند مستوى 66 نقطة في المتوسط. ثم، ومن خلال تغذية وريدية، تم حقن مسكن آلام قوي المفعول (remifentanil) دون علم المتطوعين، وهو ما خفض شعورهم بالألم إلى 55 نقطة. وفي المرحلة التالية من الدراسة، أُخبر المتطوعون أنهم يتلقون حالياً مسكن آلام، وهو ما جعلهم يقيمون درجة الألم عند 39 نقطة. وفي المرحلة الأخيرة من الدراسة، أُخبر المتطوعون -على غير الحقيقة- أن الأطباء قد أوقفوا حقن مسكن الألم في المغذي الوريدي، مما جعل المتطوعين يقيمون الألم في هذه المرحلة بأنه قد عاد وارتفع إلى 64 نقطة، رغم أن نفس مقدار جرعة المسكن كانت لازالت تحقن فيهم عندما قيموا الألم بـ39 نقطة فقط، وهو ما يعني أن شعورهم بالألم قد زاد بمقدار كبير، عندما أُخبروا كذباً أنهم لا يتلقون علاجاً. هذه الدراسة الفريدة من نوعها، يتوقع أن تنتج عنها تبعات مهمة على صعيد الممارسات العلاجية اليومية. حيث أصبح من الواضح والمؤكد، قدرة الحالة النفسية والذهنية على تقوية مفعول الأدوية والعقاقير، كما حدث مع انخفاض مستوى الألم من 55 نقطة إلى 39 نقطة عندما أدرك المتطوعون أنهم يتلقون مسكناً، أو على إلغاء تأثير الأدوية والعقاقير تماماً، كما حدث مع ارتفاع مستوى الألم من 39 نقطة إلى 64 نقطة، عندما أُخبر المتطوعون كذباً بأنهم لا يتلقون أي علاج. ويتوقع الأطباء أن مثل هذا التأثير يمتد أيضاً ليشمل المرضى المصابين بأمراض مزمنة، فالمريض في هذه الحالات، وبعد فشل عدة عقاقير في تخفيف أعراض وعلامات مرضه المزمن، يتولد لديه إحساس سلبي بعدم فعالية العلاج، وهو ما قد يؤثر على فعالية دواء جديد يمكن تخفيف أعراض وعلامات مرضه، مما يدخله في دائرة خبيثة من تغيير الأدوية والعلاج دون فائدة تذكر. ولتحقيق الخروج من هذه الدائرة، يجب على الأطباء المعالجين الاهتمام بالناحية النفسية والذهنية للمريض، وخبراته السابقة مع أنماط العلاج المختلفة، وخصوصاً التجارب السلبية، والتي قد يؤدي تراكمها إلى التقليل من فعالية وكفاءة العقاقير الحديثة.