الهند، وهي تواصل نموها، ليست في حاجة إلى إصلاحات فقط، وإنما إلى استقرار سياسي أيضا. فأنظار العالم كله مركزة عليها لمعرفة ما إن كانت ستستطيع الحفاظ على مستوى نموها مانموهان سنج، رئيس وزراء الهند ومخطِّطها الاقتصادي المعروف بسمعته الجيدة وسجله النظيف، تعرض خلال الأشهر القليلة الماضية، لهجوم من صفوف المعارضة على خلفية سلسلة من فضائح الفساد التي لاحقت أعضاء في حكومته. غير أنه إذا كان "سنج" أكثر نزاهة واستقامة من أن يتهمه أحد، فإن زملاءه في الحكومة وفي حزب "المؤتمر" لم يكونوا كذلك. بدأت القصة بادعاءات الفساد التي أحاطت بدورة ألعاب الكومنويلث التي استضافتها الهند في أكتوبر الماضي، حيث يتم التحقيق حالياً مع "سوراش كالمادي" رئيس لجنة تنظيم ألعاب الكومنويلث على خلفية اتهامات له بالمسؤولية عن مشاريع تجاوزت الميزانية المخصصة لها وسجلت الكثير من التأخير، وكلها أمور أساءت إلى صورة الهند وسمعتها. ثم تلت ذلك فضيحة سكن اضطر على إثرها رئيس الوزراء السابق لولاية مهاراشترا إلى الاستقالة على خلفية ادعاءات تفيد بأنه سمح لأقارب له ببناء منازل فخمة على الأرض التي منحت لأرامل الحرب. بيد أن أكبر فضيحة على الإطلاق هي تلك المتعلقة بالجدل المحيط بمنح تراخيص اتصالات الجيل الثاني (G2)؛ حيث استقال إيه. راجا، وهو عضو في حزب "درافيديان" في جنوب الهند، الذي يعد شريكاً لحكومة "المؤتمر"، من منصبه كوزير للاتصالات. ورغم أن القضية مازالت موضع تحقيق من قبل السلطات، فإن أحزاب المعارضة الهندية توحدت حول عدم السماح للدورة الأخيرة للبرلمان بمواصلة جلساتها. ونتيجة لذلك، أصاب الشلل الدورة الشتوية لمجلسي البرلمان بسبب فضيحة الفساد، وتركزت الأنظار على رئيس الوزراء. ولئن كان صحيحاً أن سنج لم يتورط في أي من ادعاءات الفساد تلك، فإن الصحيح أيضاً أنه لم يكن قادراً على إبعاد الانتقادات بسبب الفضيحة. ومن أجل شرح موقفه والإجراءات التي اتخذها ضد الوزراء الذين تحوم حولهم الشبهات، قام رئيس الوزراء، المتحفظ عادة والذي يتجنب أضواء وسائل الإعلام، بعقد مؤتمر صحفي نادر هذا الأسبوع رد فيه على كل الإشاعات والادعاءات، وبعث خلاله برسالة مفادها أنه مازال هو من يسيطر على شؤون الحكومة. وقد شكل المؤتمر الصحفي فرصة لرئيس الوزراء الهندي كان في أمس الحاجة إليها ليخبر البلاد والعالم بأن الأمور على ما يرام في الهند وحكومتها، وذلك بعد أن ألقت فضيحة الفساد واسعة النطاق بظلال طويلة على الهند وأثارت تساؤلات بشأن استمرارية واستدامة النمو الاقتصادي للهند. ولعل السؤال الكبير هو ما إن كانت الحكومة مازالت تسير على سكة الإصلاحات وأجندة التنمية، وهما جانبان مهمان بالنسبة لبلد يُعد من بين أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. إن الرسالة التي صدرت عن رئيس الوزراء هي "أجل" قوية ومدوية. فرئيس الوزراء الهندي، الذي وضع حداً لكل التكهنات، بدا خلال ذلك المؤتمر الصحفي زعيماً قوياً مازال ممسكاً بزمام الأمر. ولعل إحدى أهم الرسائل التي تم البعث بها خلال المؤتمر الصحفي، الذي بث على الهواء مباشرة على القنوات التلفزيونية الهندية، هو أن رئيس الوزراء ليس ذاهبا إلى أي مكان. ذلك أن "سنج"، الذي وضع حدا للتكهنات التي تناسلت مؤخراً حول ما إن كان سينهي ولايته أو سيستقيل من منصبه قبل نهايتها، كان واضحاً بخصوص عزمه وتصميمه على قيادة البلاد بعيداً عن أجواء التشكك الحالية الحافلة بالفضائح، وبخصوص طمأنة البلاد والعالم معا بأن الحكومة مازالت على سكة أجندة التنمية والإصلاحات. ومما لا شك فيه أنه كان من الأهمية بمكان أن يبعث رئيس الوزراء الهندي برسالة مؤداها أن آخر شيء تحتاجه الهند في هذه المرحلة هو انعدام الاستقرار على مستوى القمة. ذلك أن أحد أهم الإنجازات التي حققتها الحكومة الهندية الحالية خلال الآونة الأخيرة هو حقيقة أنه عندما كان العالم يواجه الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن الهند لم تسلم من أسوأ تداعيات الأزمة المالية فحسب، وإنما تمكنت أيضا من الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة. إنجاز نادر أبرزه "سنج"، الذي اغتنم الفرصة أيضاً للكشف عن بعض الحقائق حول قوة ونشاط الاقتصاد الهندي. فالاقتصاد الهندي يوجد اليوم في حالة جيدة حيث تتوقع الحكومة معدل نمو يبلغ 8.5 في المئة. وعلى الرغم من أن التضخم مازال مشكلة، فإن الحكومة تمكنت من الحفاظ على أسعار المواد الأساسية تحت السيطرة، وخاصة بالنسبة لفقراء الهند. وأثناء إعلانه عن بعض مخططاته المستقبلية، كشف رئيس الوزراء الهندي أيضاً عن نية حكومته بدء موجة جديدة من الاستثمارات في البنى التحتية، إلى جانب تقديم عرض مشروع قانون الأمن الغذائي على أنظار البرلمان. غير أن الرسالة الأهم التي بعث بها رئيس الوزراء الهندي - في تقديرنا - هي أنه قوي، وأنه ليس ذاهباً إلى أي مكان، وأنه سيقود الحكومة خلال الثلاث سنوات المتبقية من ولاية الحزب الحاكم. إن الهند، وهي تواصل نموها، ليست في حاجة إلى إصلاحات فقط، وإنما إلى استقرار سياسي أيضا. فأنظار العالم كله مركزة على الهند في الوقت الراهن من أجل معرفة ما إن كانت ستستطيع الحفاظ على مستوى نموها الحالي وتحقيق التوقعات التي تذهب إلى أنها ستتجاوز الصين كأسرع اقتصاد نموا في العالم. والحق أن رئيس الوزراء الهندي نجح خلال هذا المؤتمر الصحفي في البعث برسالة ثقة إلى البلاد والعالم.