كنتُ أحضر مؤتمراً بروما، تضمّن مراجعاتٍ لما جاءت به التحركات الشعبية العربية من جديدٍ بشأن علاقة الدين بالدولة، وعلاقة جماعات المجتمع المدني والحزبيات الإسلامية على حدٍ سواء بالتغيير الذي يُرادُ إدخالُهُ على الأنظمة، وأفكار الأطراف المشاركة بشأن مستقبل البلاد والعباد. ولا شكّ أنّ الانطباع عن هذه الثورات تغير في أوروبا والولايات المتحدة، وما عادوا خائفين إلى الحدّ الذي كانوا عليه عند بداية التحركات. فقد تبين أنّ أكثرية المشاركين الساحقة تريد تداوُلاً على السلطة، وانتخابات حرة، وحكم قانون، وشفافية وخلاص من الفساد. وما طالب أحدٌ من الإسلاميين المشاركين بتطبيق الشريعة ولا قال: الإسلام هو الحلّ، وهو الشعار الذي كان "الإخوان" يحملونه في كل انتخابات، مهما عانوا في سبيل ذلك من مشقّات. وهكذا فعندنا من جهةٍ ذلك التغير الذي لاحظْناهُ في أفكار الشباب، وهم في الغالب متدينون، لكنهم ليسوا حزبيين، ولا يربطون التغيير السياسي بأُطروحةٍ دينيةٍ معيَّنة. وقد كنا نتجادل طوال أكثر من عقدين، مع المنظّرين الأميركيين والأوروبيين بشأن الأُصولية الدينية المنتشرة بين الشبان، والتي تدفعُهُم للتطرف وربما للعنف. ولذا فإنّ الحديث عن الاستثناء العربي، والاستثناء الإسلامي، من جانب أمثال برنارد لويس وفريد زكريا وهنتنغتون وفؤاد عجمي وبعض المنظّرين العرب والمسلمين؛ كان المقصود به أنّ أفكار الحداثة والديمقراطية وممارساتهما وقفت حسيرةً أمام أعتاب الشباب العربي والإسلامي، والذي يفضّل الدولة الدينية المُعادية للغرب، وللحكّام العرب والمسلمين! بيد أنّ شوارع الدول العربية شهدت وتشهد منذ شهرين تحركات شعبية شبابية واسعة جداً تقول جميعها بالدولة المدنية. وهذا يعني أنّ الانطباع السابق لا أساس له ربما باستثناء بعض الكتب والمقالات والشعارات التي كان يكتبها أو يرفعها الحزبيون الإسلاميون في مواجهة الأنظمة والحكومات، والتي كانت تأبى عليهم المشاركة وإنْ في حدودها الدنيا. فالجمهور الديمقراطي الواسع مُفاجئٌ كأنما ظهر فجأةً من تحت الأرض أو نزل من السماء. وهذه المفاجأة لا يُسألُ عنها المراقبون الأجانب؛ بل نُسألُ عنها بالدرجة الأولى نحن، الكتّاب والمُراقبون العرب والمسلمون، وقد انصرف أكثرنا إمّا لمجادلة الأجانب، دفاعاً عن الإسلام، أو انصرفنا لمجادلة الأُصوليين العرب والمسلمين داعين إياهم للهدوء والاعتدال! ثم إنّ الإسلاميين أنفسَهُم أظهروا حرصاً على الطابع المدني للتحرك الشعبي، كما كتب بعضهم مقالاتٍ في الدولة المدنية التي يريدونها. وسواء أكان ذلك حكمةً من جانبهم، أو أنّ تغيراً محسوساً حدث في أفكارهم نتيجة التجارب؛ فإنّ الساحة الحرة والتنافُسية، كفيلةٌ بأن تدفع الإسلاميين لمزيد من المراجعة والتفكير بالمستقبل. فما دام الجمهور أو فئات واسعة منه قد تحركت باتجاه العمل والفعالية؛ فالذين يريدون البقاء في الساحة السياسية وممارسة تأثير عليها؛ يصبحون عُرضةً للتأثر إن كانوا حريصين على النجاح، ومُجاراة إسلام الجمهور، وليس إسلام الحزب! بيد أنّ هناك فكرةً أُخرى يشّجعُني عليها أيضاً التحرك الشعبي الواسعُ الذي فوجئنا به جميعاً. فالفرضية السابقة التي تبنّاها الأميركيون تقول إنّ التأزم الديني هو الذي تسبّب في تأزم سياسي، فظهرت أفكار ومسلَّمات الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة. وقد شجّع على هذا الانطباع صعود ظاهرة التدين أو الصحوة الإسلامية، وظهور الإسلام السياسي في قلب امتدادات الصحوة، كأنما ليُزيل الحداثيات ومظاهر التغريب، وبخاصةٍ أنّ كثيرين من الدعاة الإسلاميين اعتبروا الأنظمة السياسية السائدة جزءاً من التغرب الحاصل في شتى المجالات. والمعروف أنّ الحكّام العرب والمسلمين شجّعوا الغربيين على أخْذ هذه الأصوات مأخذ الجدّ عندما دأبوا على التحذير من أنّ ذهابهم هم يعني الفوضى أو سيطرة الإسلاميين المتشددين المعادين للغرب. وهكذا فالعرب والمسلمون الآخرون، بحسب هذه الرؤية، ليسوا مؤهَّلين لإقامة أنظمةٍ ديمقراطيةٍ، لأنهم يفتقرون إلى الثقافة الديمقراطية. وما أزال أذكر سلسلةً عن الأوضاع في العالم العربي صدرت في أواخر التسعينيات، وأشرف عليها باحثٌ سياسيٌّ معروف عنوانها: العالم العربي، ديمقراطية بدون ديمقراطيين! إنّ الفرضية التي أريد طرحها بديلاً للمسلَّمة السابقة، هي أنّ التأزُّم السياسيَّ هو الذي أدى ويؤدي إلى التأزم الديني وليس العكس. فقد كان "الإخوان" موجودين بمصر أيام الملكية، وكانوا ينزلون للانتخابات ويسقطون. وقد مارس تنظيمهم الخاصّ أعمالاً عنيفةً لأسبابٍ وطنية، كما قالوا، وما زاد ذلك من شعبية "الإخوان" ولا احترامهم في عيون الناس. وقتَها كانت الحياة السياسية بخير، وكانت الأحزاب تتنافس، وكان "الوفد" هو الحزب الشعبي الأول، و"الإخوان" يعتبرونه عدوَّهم الأول. ثم قامت ثورة 1952، بدعمٍ من "الإخوان". وقد حلّت الثورة الأحزاب، وأقفلت كلّ القنوات والمنافذ السياسية، وما عاد من حق أحدٍ أن يتحرك على الساحة السياسية التي احتلّها الضباط بالكامل. وعندما مات مصطفى النحّاس، زعيم "الوفد"، خرجت له جنازةٌ ضخمةٌ بالإسكندرية أدهشت الناصريين، وبعد أشهر جرى الإعلان عن اكتشاف مؤامرة لـ"الإخوان" على النظام، وعرفنا كتاب سيّد قطب، "معالم في الطريق"، الذي يدعو فيه للحاكمية الإلهية. فخلال عشر سنواتٍ من الانسداد السياسي في عهد الضباط، عاد زعيم شخصيةً شعبيةً كبرى، وأصبح "الإخوان" يقولون إنّه لا حُكْمَ إلاّ لله، وصارت الديمقراطية مثل الشيوعية، تقليدين غربيَّين جاهليَّين! وعلينا أن لا ننسى أنّ الأنظمة العربية آنذاك، في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان؛ كانت قد سيطرت عليها أنظمة الضباط، بمقولاتها حول حتمية التحول الاشتراكي. وكان المنطقيُّ أن يواجهها الإسلاميون بحتمية الحلّ الإسلامي، وجاهلية الطاغوت. وكان القرضاوي قد ذكر في الكتاب الأول للسلسلة التي بدأ بإصدارها عام 1972 عن "حتمية الحلّ الإسلامي"، إنه إذا كانت الأيديولوجيات الإلحادية والدهرية تعتبر نفسها حتميات؛ فإنّ المؤمنين الموعودين بنصرٍ من الله وفتْحٍ قريب، هم الأَولى بذلك. لقد كان إذن تأزماً سياسياً صاخباً وعنيفاً بدأ بانسداداتٍ داخل مصر، كبرى الدول العربية، ثم امتدّ إلى عشرة بلدانٍ بالمشرق والمغرب لاحقاً. ودخل ثانياً وثالثاً أو التحق باستقطابات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وجاءت هزيمة عام 1967 لتُسقط كلّ أعذار التحشيد والانسداد، فَجُنَّ جنونُ الناس، وبخاصةٍ الشباب، وساد التطرف الديني، في مواجهة التطرف الدهري. وكانت لأنظمة الضباط معذرتان في طغيانها: التنمية المستقلة، ومواجهة إسرائيل. وبين عامي 1967 و 1973 انتهت المواجهة، ثم حصل الفشل التنموي أو اتّضح، فازداد تعَملُقُ الانسداديةُ الإسلامية، على أساس أنّ الجذرية الانسدادية، لا يمكنُ مواجهتُها إلاّ بجذريةٍ مُشابهةٍ في دعواها الحتمية من جهة، ومواجهة ديكتاتورية الضباط بالديكتاتورية الإلهية أو ديكتاتورية الشريعة! وإذا اعتبر أحدٌ من الدارسين، أنّ هذا التفسير الذي أُقدّمه للمرة الثالثة أو الرابعة غير معقول لأنّ إحدى الديكتاتوريتين غير موجودة أو غير متحقِّقة، باستثناء ما حدث في إيران والسودان؛ فالإجابة أنّ ما حدث في ذينك البلدين باسم الإسلام أو الحلّ الإسلامي، ليس بالأمر القليل. ثم إنّ الديكتاتورية الدهرية المقفلة مستمرة منذ أربعين عاماً وأكثر. وهذا يعني أننا لسنا طبيعيين، وعندنا استثناء، ليس بسبب إسلاميينا الذين قبع مئات الألوف منهم خلال العقود الماضية في السجون، فضلاً عن إعمال النار في رقابهم؛ بل بسبب الأنظمة الجمهورية الخالدة والوراثية. وها هو الجمهور يتدفَّقُ على الشوارع مُسالماً ووديعاً ومعتدلاً ومعه الإسلاميون المتهمون من جانب الأنظمة بالعنف، بينما الواقع أنّ الأنظمة الجمهورية الوراثية هذه هي التي تقتلُ وحدها، ولا يقتلُ أحدٌ غيرها! إنّ الذي أذهبُ إليه بعد ظواهر الشهرين الأخيرين أنّ التأزم السياسي، الذي أحدثته الديكتاتوريات الجمهورية، هو الذي أنتج التأزم الديني. وإذا استتبَّ الانفتاح السياسي، وتحرر الإسلاميون من ربقة الخوف والسجون والملاحقة؛ فأعتقد أنّ التشدد الدينيَّ سيزول عن بكرة أبيه في البلاد العربية الرئيسية التي تصبح الحريات الأساسية مضمونةً فيها. وهناك أمرٌ آخر أختم به، وهو ضرورة الإقبال على المراجعات والتشخيصات والقراءات النقدية. فالذي حصل في الشهور الأخيرة فضيحة لنا، لا يجوزُ أن تتكرر. لقد نزل ملايين الشبان الناهضين والأذكياء والفعّالين إلى شوارع مدننا، وهم يطالبون بحقّهم في الحياة والمشاركة، وما كان أحدٌ منا يعرف عنهم شيئاً، بسبب القصور في معرفة مستجدات مجتمعاتنا. ينبغي أن نكون أقرب لحركية المجتمعات، أقرب لنبض الشارع، لكي نتمكَّن من التوقُّع، ولكي نتمكَّن من المُساوقة أو المشاركة، ولكي لا نُخطئَ في الفهم، فنعتمد على التفسيرات الاستشراقية والسلطوية!